2010/02/23

مصر ( أم الدنيا ) ـ ٣

في اليوم الثالث، و في الأيام المتبقية التي تلتها، كان جدولنا يبنى في يومه. فمبدأ الديموقراطية
في اتخاذ القرارات و المشاورة بدأ يرتفع، و حرية الذهاب مع العائلة أو الجلوس في الفندق متاحة!
بعد أخذ " دوش " دافئ و إفطار جميل، جلست أقرأ في كتابي. و هنا أقف أيضاً وقفة، نحن
نختلف فيما بيننا في أمور كثيرة، في تفضيلنا لألوان على حساب ألوان أخرى، في ذوقنا في
لباسنا، و في اختلاف نظرتنا و حكمنا لنفس الشيء، و أنا في القراءة أختلف عن مجموعة كبيرة
من الناس و التي تفضل و تبدع فيما يسمى بالقراءة السريعة. أما أنا ففي قراءتي فقد أنظم إلى
فئة المتلذذين بالكتاب. فحينما أقرأ عن السياسة فإني أستمتع بالمفردات اللغوية و الجمل التعبيرية
و التراكيب الأدبية التي يستخدمها الكاتب، إضافة إلى المعلومات السياسية طبعاً و التي هي أساس
و فكرة الكتاب. فقد أخذ كتابي هذا الذي لا يتجاوز المئتي صفحة مني قرابة الأسبوع حتى انتهيت
منه لأني أحب أن أقرأ و أتوقف عند الجمل التي تعجبني ثم أضع تحتها خطاً و أخرج بفائدة
تكتب في أعلى أو أسفل الصفحة، ثم أقف لأتفكر في الجملة نفسها و كيف توصل لها الكاتب
و كم من المواقف التي مررت بها و لم استنتج منها ما استنتجه الكاتب، ثم أعود أخيراً إلى غلاف
الكتاب في لحظة تأمل ثم أتابع. هنا لا أقول أن أسلوبي أو أسلوبك أنت أيها القارئ هو الأفضل.
فلكل أسلوب إيجابياته و سلبياته، و لكل أسلوب متبعيه و محبيه و ما يناسب أهدافهم و
نمط شخصياتهم، و لا يعني هذا أبداً أن تكون قراءتك دوماً باتباع أسلوب واحد فقط، فتختلف
الأساليب باختلاف الهدف المنشود من القراءة.


بعد الإفطار، و في جناحنا بالتحديد، اجتمعت العائلة لإعلان برنامجنا لليوم. كنا قد اتفقنا
على زيارة المتحف القومي فكان هو اختيارنا الأول. توجهنا مع محمد إن شاء الله إلى
المتحف القومي، و في طريقنا مررنا بالمسرح الذي قتل فيه أنور السادات و قبره و الذي يقولون
أهلي بأننا زرناه في ليلة الأمس حينما كنت نائماً في السيارة " و لا فكروا يصحوني ! “.
مررنا أيضاً بتمثال طه حسين في الجيزة، و تمثال نهضة مصر، و حديقة الحيوان، و
فندق الفور سيزون.

عند دخولنا إلى المتحف القومي قام الوالد بدفع تذاكر الدخول في الوقت الذي كنت ألتقط فيه
صوراً للعائلة و للمدخل و للبركة المقابلة للمتحف. في الساحة المحيطة بالمتحف كانت الجموع من
مختلف الأجناس و الجنسيات و الأعمار و الأديان، الأبيض و الأسمر، و الأصفر و الأحمر،
و الطويل و النحيف، و الصغير و الكبير، كلهم حضروا لمشاهدة العصر الفرعوني و
تاريخ مصر ( أم الدنيا )! عند دخولنا إلى المتحف قاموا بأخذ كاميرتي لعدم سماحهم بدخول
الكاميرات. أخذنا جولة سريعة جداً جداً في المتحف، في قرابة الساعتين أو الساعة و النصف،
و لم نستطع خلالها تغطية المتحف كاملاً! كان المتحف، بالرغم من صغر حجمه مقارنة بالمتاحف
العالمية، متشبعاً بالتحف الأثرية و القطع التاريخية. رمسيس الثاني، فرعون موسى، كان هو
هدفي و هدف عائلتي كما أعتقد من زيارة ذلك المتحف. الشيء المستغرب ـ و الذي لفت انتباهي
أخي الذي يصغرني له ـ
أن أطوالهم كانت عادية جداً! فكنت أتصور لكونهم من العصور الفرعونية
و الزمن الذي يفصل بيننا بأنهم سيكنون ذي قامة أطول من قاماتنا، إلا أننا فوجئنا بعدد كبير
منهم أقصر منا في حدود الـ ١٧٥ سم أو ما يقاربها. لم أشعر عند زيارتي للمتحف القومي بتلك
الهيبة التي توقعتها إلا عند مشاهدة الرأس المذهب الذي يلبسه الفراعنة! كان شعوراً جميلاً جداً.
رأس مصنوع من الذهب و عند الأذن فتحة صغيرة لوضع الحلق فيها. حجمه كان كبيراً مقارنة
مع رؤوس الفراعنة الموازية لأحجام رؤوسنا. مررنا بما استطعنا من التحف سريعاً، لم نتوقف
لقراءة المعلومات عنها لأن زيارة المتحف من وجهة نظري تستلزم عليك أخذ مرشد ليعطيك
" الزبدة ". كان في المتحف مشهد جميل استرعى انتباه الجميع و هو في كون عجوز يمشي
وراء حفيده و الذي لا يتجاوز السبع سنوات تقريباً و يخبره عن تاريخ مصر بأسلوب جميل،
و الصغير يمشي و جده خلفه يسير. ثم يتوقف العجوز فيعود له حفيده و يتحادثان بأسلوب
حميمي و رباط من المحبة بينهما عجيب! أثار شجوني ذلك المنظر و تتبعتهما بنظري كثيراً
حتى خرجنا.

عدنا بعد ذلك إلى الفندق، و بدأ البرنامج المفتوح. كعادتي أنا و أخواني ذهبنا للسينما، أما أخي
الكبير فقد ذهب لقراءة الكتب التي أحضرها معه، فهو يستمتع كثيراً بقراءة الكتب و الذي بسببها
يعارضه أبي على كثرة قراءته. من وجهة نظر أبي أن الرحلة خصصت للعائلة، و أخي يقول أن
الهدف من الرحلة هو الاستمتاع و قضاء فترة نقاهة بعد عناء فصل دراسي كامل، و هذا ما يجده
مع الكتب. و هنا نقطة توقف أتركها لكم.


في اليوم التالي ذهبنا إلى الأهرامات مع محمد إن شاء الله، و حينما لاحت لنا الأهرامات من خلف
الأفق شعرت بشعور غريب، " شعور مصري أول مرّة يشوف الكعبة " ، كان شعور لا يوصف، لم
أستطع أخذ صورة لها تشفي غليل صدري و أنقل إليكم أحاسيسي عبرها. عند مواقف السيارات
تجمع المصريون حولنا كل يعرض علينا مركبته " التوك توك بتاعه " و هي العربة التي يجرها
حصان. اتفق الوالد مع ثلاثة منهم على مبلغ و قدره، حيث تفاجأ بحجم المبلغ قياساً بالوسيلة التي
سننقل عليها و المبلغ العقلاني الذي تستحقه. التفت الوالد إلى محمد السائق و عاتبه عن كونه لم
يحاول أن " يكاسر " المصريين حيث أعتذر محمد عن سهوه. عند مدخل الهرم توقفت العربات
لكي ننزل على أرجلنا و نأخذ تصاريح الدخول. عند بوابة الدخول قال البواب أنه يلزم على
الفرد الواحد جنيهين فقط، فالخليجيين كغيرهم من المصريين في تكلفة الدخول، إلا الذين لا
يحملون جوازاتهم فيلزم الفرد منهم خمسين جنيهاً! هنا تعجب الوالد من سهو محمد مرة
أخرى و إخفائه هذه المعلومة عنا فعاتبه مرة أخرى، و كان رد محمد حينها [ آه، اليوم باين
انو مش يومي ]
. أكملنا جولتنا على الأهرام الثلاثة: خوفو الجد، خفرع الأب، و منقرع الابن،
أو العكس. كانت تجربة جميلة و هي العلامة البارزة في رحلتنا إلى مصر بالنسبة لي. و حين
عودتنا إلى السيارة سأل صاحب التوك التوك الذي يركبه والداي مع أختي الصغيرة عن إذا
كان أبي يأتمن محمد؟ فأخبره أبي أنه لا يدري! فعرض عليه أن يختبر محمداً و صدقه و
أمانته، حيث عرض عليه أبي خمسين جنيهاً إذا استطاع أن يثبت خيانته للأمانة. و هذا ما
حدث، فبعد استلام أصحاب " التكاتيك " الثلاثة لمبلغهم و الذي هو ٣٧٠ جنيهاً، و الذي كان
من المفترض على حد قول صاحب الشركة السياحية أن يكون خمسين جنيهاً فقط لجميع
العربات الثلاثة معاً، ذهب محمد إليهم و سألهم عن نسبته منها حيث كان الوالد في محل مجاور
يشهد الحادثة من خلف الزجاج. في الحقيقة، كان المشهد مضحكاً، فقد ظهر أبي كأحد أبطال
الأفلام البولوسية و قد حان الفيلم على الإنتهاء حينما يقبض الشرطي على الجاني! خرج أبي
على صاحب " التوك توك " و ناوله الخمسين جنيهاً ثم تجادل مع محمد حول خيانته فتعبجت
من سرعة رد محمد ـ سواء أكان صادقاً أم كاذباً ـ حين قال: [ ده الفلوس اللي حاخودها أصلاً
حترقع لك ! ]
فأعود و أقول في نفسي " لا يا شيخ ! “ سأله حينها أبي لماذا لم يقل له ذلك
من قبل ؟ فأخبره أنه لم يكن يعلم أننا نريد الذهاب إلى الأهرامات و أنه لا يشتغل على سياحة
الأهرامات و إلا لكان أخبرنا بإحضار الجوازات و تخفيض " التوك توك ". من وجهة نظري
الخاصة أعتقد أن الموضوع فيه إنّ. فعدم توقعه لنا لزيارة الأهرامات و عدم اشتغاله عليها
كمن يستغرب من أجنبي أتى إلى مكة لزيارة الكعبة! و إذا كنت تشتغل في مجال السياحة
المصرية و تسكن القاهرة فإنه و من الأكيد أن غالبية السائحين، إلم يكونوا كلهم، قد وضعوا
زيارة الأهرامات ضمن جداولهم. بغض النظر عن صدقه من عدمه لن تكون هذه نقطة نقاشي
هنا، فما أريد الالتفات له هو شعور الخيبة و الصدمة التي تولد في نفس أبي حينها، و
ملامحه التي تنطق بأحاسيس الألم تجاه خسارة من أتمنه على ماله. في حياتي كلها لم أر و
أشعر بصدمة يواجهها أبي كهذه إلا مرة واحدة. حينها قلت في نفسي: أيوجد شيء يدمي
عروق القلب مثل جرح الخيانة؟ أو بعبارة أدق، هل هناك أمر من رؤية من وضعته في
منزلة عالية يهوي أمام عينيك؟
لا أعتقد!


أكملنا بقية أيام رحلتنا في زيارات مختلفة: قصر صلاح الدين ـ مسجد المماليك ـ مسرحية سمير
غانم ـ مطاعم قروية ـ سينما
. و الجدير بالذكر هو أحد الأفلام التي شاهدناها في السينما، و هو
فيلم هندي اسمه: My Name Is Khan. بطولة شاروخان، و هو من أجمل الأفلام التي رأيتها،
و التي تحكي نظرة العالم للمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، و كيف أنه يمكن
لجميع الأديان العيش في السلام باحترامها لمبدأ اختلاف الأديان، مع تحفظي على النقطة الأخيرة.

كان حضور فيلماً مصرياً إحدى التجارب الجميلة التي قمت بها، فحضورك لفيلم مصري في
سينما مصر و بحضور المصريين " توووحفه "!. منذ أن بدأ الفيلم حتى انتهى و الأحاديث
الجانبية لم تتوقف، و ركض الأطفال على ممرات السينما صعوداً و نزولاً لم ينته، و تصفيق
المشاهدين لبعض مشاهد الفيلم و التصفير يشعرك بأنك في ملعب و ليس سينما! و وقفت
الاستراحة التي تشتهر بها السينما المصرية في منتصف الأفلام لتتمكن من شراء الفشار مرة
أخرى أو مشروب غازي أو زيارة دورة المياة، كلها معاً شكلت معي انطباعاً مختلفاً عن الشعب
المصري. فالذي يزور مصر سيلحظ كيف أنهم شعب مترابط على بعضه، و كيف يمشون في
جماعات أياديها على أكتاف بعض، و هو ما قل في أيامنا هذا مشاهدته في طرقاتنا و أماكن
تجمعاتنا. إني أعمد أحياناً مع أصدقائي إلى معاضدتهم و مكاتفتهم و حتى معانقتهم، فأجد
منهم استحياء و خجلاً من ذلك، و هو شعور لا أفهمه، فعناقي لك هو إحدى الطرق الذي أعبر
لك فيها عن مدى حبي لك، فلم الخجل ؟

إلى هنا، أتوقف عن السرد، فبقية تفاصيل الرحلة لا جديد فيها و لا مفيد. أتمنى أن تكون هذه
الحلقات الثلاث قد رسمت لكم صورة مبدئية عن الحياة المصرية في القاهرة، من وجهة نظر مختلفة و
بأسلوب مختلف. أشكركم.

غداً سأقوم بالتعقيب على جمبع ردودكم في التدوينات السابقة. أأسف على التأخير!



صور منتقاة:

أختي الصغيرة بعد الفطور في حديقة الفندق

كبري أكتوبر و الذي يبلغ طوله ٤٠ كيلو متر تقريباً

مدخل المتحف القومي

هذا يشبه القناع المذهب اللي تكلمت عنه

لقطة شاعرية ثالثة

تمثال طه حسين

أثناء توجهنا للأهرامات على التكاتيك بين الحواري

مع الأهرامات

صورة لمقارنة الهرم بحجم الحافلة

أبو الهول في المقدمة، و يعتبر حارس الأهرامات

ملاهي ٦ أكتوبر، مو مرة!

لعبة الشلال، و لقطة تظهر فيها جموع الناس اللي تقف فوق المركبة لكي تتبلل بالماء!

لاما! أول مرة أشوفها.

لعبنا شوية تنس

عشاؤنا في المطعم القروي، و الذي أكل فيه معظم الفنانين المصريين بما فيهم تامر حسني.

أخوي يقف داخل ممر الميترو، و يظهر قصر ارتفاع ممراته.

اللقطة الأخيرة للانتركونتنيتال