بعد أسبوعين من " المقاضي " و " المشاوير "، من تعاقيد متطلبات الفيزا التي كان من الممكن أن تكون أيسر
بكثير، أجد نفسي على مقعد الطائرة متوجهاً إلى كندا. إلى دولة أعرف فيها [ لا أحد ! ]. كانت تجربة جديدة
لذيذة في مخليتي أكثر بكثير مما كان عليها الواقع.
صبيحة يوم سفري ذهبت، أنا و صديقي، لتناول وجبة الإفطار في " منؤشة " كوداع أخير، يعقبه لقاء. سألني
للمرة الألف عن موعد رحلتي، و من باب الدعابة أجبته: [ الساعة 0155، يعني الساعة وحدة و خمس ظهر بكرا ].
ضحك قليلاً ثم قال: [ 01 يعني الساعة وحدة بالليل ! ]، اكتشفت حينها أن موعد رحلتي بعد سويعات قليلة.
لم أكن حينها قد جهز شنطتي، و أخترت كتبي التي سآحملها معي، و بعض أوراق أخط عليها أحاسيس عابرة.
لم أكن قد هيئت نفسي للرحيل !
عدت إلى المنزل بعد وجبة الوداع، ألقيت نفسي على سريري لأفكر في: هل أنام الآن و أستيقظ العصر لإكمال
ما تبقى من حوائج ؟ أم أواصل حتى إكمالها ؟. قررت المواصلة، و أحمد الله أن فعلت ذلك. فلم أكد أنهى أشيائي
إلا و قد حان موعد الرحيل. “ توادعت " من أمي و جدتي و عمتي و عمي، و اتصلت بمن أسعفتني ذاكرتي
التائهة وقتها أن أتصل به، ثم توجهت إلى المطار بسيارة امتلأت كراسيها بأفراد العائلة.
لم يكن موظف الخطوط الهندي أفضل مني. فعندما استلم تذكرة سفري أخبرني بأن موعد رحلتي غداً. و حينما
طلبت منه التأكد إعتذر مني و شحن الأمتعة مباشرة إلى فانكوفر، بطلب مني.
على مقاعد الانتظار جلست منتظراً، أنظر إلي كثيراً و أنا أفكر: لماذا أحرص دوماً على أن أبدو دوماً في أكمل
صورة عندما أعلم بأني أذخل محيطاً جديداً ؟! هل هو خوف صحى يدفعني إلى الإستفادة من الإنطباعات
الإيجابية الأولى ؟! أم هي مجرد أفعال لا إرادية يقوم عقلي الباطن بإملائها على تفادياً من أي سخرية ممكنة ؟!
هل لهذه الحركات أي ارتباط بمدى ثقتي بنفسي ؟! أم أني " أتفلسف " مع نفسي لأشغر وقت الانتظار ؟!
بـ " جينز " كحلي لم يلبس قبل هذا اليوم، و " تي شيرت " رمادي تتوسطه حمامة أبيض من جزمتي بقليل
كنت أجلس. و على أنغام الـ " آي بود " و حب التفرس شغلت وقت انتظاري مع كوب من قهوة المقهى في
قلب المطار.
بعد قرن من الانتظار و التأخير [ امتطينا صهوة ] الطائرة و انطلقنا !
من الرياض إلى لندن، في رحلة دامت قرابة الست ساعات، عانيت الأمرين. فلأول مرة لم أستطع أن أنام
في الطائرة !، و هي سابقة تسجل في تاريخي. كان مقعدي على الممر و بجانبي يجلس شاب سعودي أسمر،
أعتقد من الشبه الظاهر أن قريباه هما اللذان جلسا أمامنا. تحاشيت الاحتكاك معه لسببين رئيسين، أولهما
أني و قبل انطلاق الرحلة عقدت العزم على أن لا أتخاطب مع أي كائن كان بغير اللغة الإنجليزية. ثانيهما، أنك
و في مثل هذه الرحلات يجب عليك أن تحتاط من كل شيء، فلست بالغب و لا الغب يخدعني.
بعد تناول وجبة الغداء، وكزني من بجانبي بلطف و قال: [ تبي علك ؟]، [ الله يكرمك ] بكل بساطة رددت عليه.
" ما أمدانا نطلع من الرياض ! "، صرخت في رأسي " و هذا انت بديت تتكلم عربي ! “.
وجبات تذهب، و عصائر تجيء، و أفلام تتوالى. و عقارب الساعة تسير بثقل عجيب !
وصلنا إلى لندن، في منطقة زمانية مختلفة و بأسئلة مختلفة، أدرجتها هنا. من مدرج الطائرة سرنا لندخل
على ساحة كبيرة مداخلها و مخارجها أكثر بكثير من أن يستوعبها عقل شاب سارح !. حاولت استرجاع
بعض ذكرياتي في هذا المطار علها تجدي نفعاً، غير أنها كانت كلها حول حديث جرى بيني و بين أخي. أو
وجبة من مطعم لم أستسغ طعامه. أو غرض تمنيت شراءه. تمنيت حينها لو انتبهت لما كان يفعله أبي. كل
هذا و أنا أسير بثقة لا تتزعزع أن الأمور " تمااام ! “. توجهت مسرعاً إلى القائمة الطويلة المذكور فيها
أسماء الخطوط العالمية، أمامها أرقام تدل على بوبات يجب علينا التوجه إليها. البوابة الفلانية، كان يجب على
السير بسرعة أكبر حتى أصل قبل الموعد خشية فوات شيء لا يجدر علي تفويته. أدخل مع البوابة. أنزل مع الدرج.
أسير في ممر أطول من خيالى المتوقف. حتى أصل إلى بوابة تخرجني من المطار. يقلني حينها " باص " إلى
بوابة أخرى. أنتقل منها إلى ساحة داخلية يتجمع فيها حشد ضخم من أوجه هائمة.
مطاعم، مقاهي، محلات أغاني، مجوهرات، ساحات جلوس، محلات ألبسة، ساعات، خمور، وكالات سياحية،
و " بقالات ". التعامل في تلك الساحة، كما أعتقد، يكون بأكثر من عملة. فمن المعلوم أن العملة البريطانية،
الباوند، هي العملة المتوقع التعامل بها. إلا أنني قمت بشراء عصير البرتقال بالعملة الكندية من دون أي استغراب.
انتظرت في مطار هيثرو متجولاً بين ساحاته أربع ساعات. أستطيع حينها أن آكل و أشبع، و أشاهد حلقة
على جهازي المحمول من مسلسل أتابعه.
على متن الطائرة المتوجة من لندن إلى فانكوفر أذكر أن آخر شيء سمعته هو تعليمات السلامة ثم ذهبت في
نوم عميق. استيقظت على رائحة الغداء. تناولت وجبتي ثم عدت في سبات أعمق. و على رائحة عصير البرتقال
صحوت من نومي مرة أخرى. بعد العصير" أوخ فيييييييش " !! كانت رحلة متعبة بعض الشيء، و لكنها كانت العتبة الأخيرة التي أوصلتني إلى فانكوفر.