2013/05/20

مصلحتك قبل مصلحتي


مصلحتك قبل مصلحتي







القاعدة الرئيسية لنجاح أي علاقة من وجهة نظري الخاصة هي: أن يسعى كل طرف من أجل سعادة الطرف الآخر. و يمكننا قياس هذه القاعدة على العلاقة الزوجية: لو حاول كل طرف من طرفي هذه العلاقة أن يبذل قصارى جهده و طاقته من أجل سعادة الطرف الآخر لاستمرت العلاقة فترة أطول و بشكل أفضل و بروح أجمل حتى يبدأ أحد الطرفين بالتفكير في نفسه على حساب الطرف الآخر. نقيسها أيضاً على علاقة أخرى، علاقة الأب بابنه و الابن بأبيه: لو كان الأب يساند ابنه في تحقيق أحلامه و تشجيعه ليتجاوز معه كل المعوقات من دافع الحب له و يظهر كل أفعاله بشكل يستشعر الابن من خلالها أنها ليست رغبة أبيه و إنما مصلحته الشخصية هي الدافع لكان المردود من ذلك هو طاعة الابن لوالده و التعامل معه بمقدار الحب الذي يتلقاه منه، و لبدأ الابن بتقديم رغبات أبيه على رغباته الخاصة محبة و تقديراً و إجلالاً بكل طواعية. تبدأ العلاقات بالفتور ثم بالانقطاع حينما تسير نحو التفكير بالمصلحة الشخصية. لذلك، فإن العلاقة المقدسة بين الأبناء مع أمهم لا تموت أبداً، لأن الأم يندر جداً أن تقدم مصلحتها على مصلحة أبنائها. الأب يفعل ذلك أيضاً، إلا أنه لا يستطيع إشعارهم بذلك، بالقدر الذي لا تتحرج الأم من التصريح به لهم. فهي لا تفرح إلا لنجاح أبنائها، و لا تحزن إلا لتعبهم. و العجيب أيضاً أن المهدئ لمشاكلها و المغير لمزاجها الحزين قد يكون شيئاً بسيطاً: كأن ترى أبناءها سعداء!

أنا هنا لست بصدد الحديث عن علاقة الابن بأمه أو أبيه، و لا الزوج بزوجته أو العكس، أنا هنا أكتب هذه التدوينة لأتحدث عن علاقتنا نحن المجتمع ببعضنا: لن ينجح مجتمع أبداً يفكر كل فرد فيه بنفسه فقط، و يقدم مصلحته الشخصية على مصلحة غيره. مجتمع الغاب هو المجتمع الذي يأكل القوي فيه الضعيف، و يتفاخر الناس فيما بينهم بالشخص الذي "يعرف من أين تؤكل الكتف". هو مجتمع يعتبر الخداع ذكاءً، و الغش تجارةً، و التدليس براعةً في الإقناع، و الكذب نمطاً للعيش. في هذا المجتمع تنعدم الأخلاق، و يُتجاوز فيه القانون، و تتفشى فيه الجريمة، و يكثر فيه الكذب، و تُلوى فيه أعناق الحقائق، و تُلبس فيه الأقنعة، و تنتشر فيه النميمة، و تؤكل فيه أعراض الناس بالباطل، من أجل هدف واحد، واحد فقط: الوصول إلى المصلحة الشخصية.

في المجتمع الذي يقدم فيه الناس مصالح غيرهم على مصالحهم الشخصية لا تتواجد السرقة، و لا الغش، و لا النميمة، و لا الكذب، و لا ارتفاع الأسعار، و لا غلاء الأراضي، و لا نقص في الجودة، و لا تفكك في المجتمع، و لا انعدام في الأمن. هي مجتمعات مرتبطة بميثاق الأخلاق العامة التي تتفق عليها الفطرة، تسمو بروح المجتمع عن كل رذيلة لأن القاعدة فيها بكل بساطة: مصلحة غيري قبل مصلحتي أنا! و قد قال رسول الله : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه )). 
و من هذا المبدأ كانت هذه القاعدة، و هي: قاعدة الإيثار.




لماذا لا ترتفع الأسعار في مجتمع مُؤثِر؟ لأن البائع لن يرفع السعر على المشتري و لن يضطر إلى أن يحلف له بأنه يبيعه السلعة بسعر الجملة، و لأن البائع أيضاً قد يعطي المشتري السلعة حتى لو لم يكن معه قيمتها في تلك اللحظة على ثقة بأنه سيدفع القيمة وقت حصوله على المبلغ المطلوب. في نفس الوقت لن يجادل المشتري البائع، لأنه يضع نفسه مكان البائع و يتمنى للبائع الخير و الازدهار و الغنى، فلا يمانع في دفع القيمة التي يراها البائع مناسبة لسلعته لأنه أيضاً على ثقة بأن البائع لن يغشه و أن البائع يتعامل معه كما يتعامل مع شخص يهمه أمره فلا هو بمطفف و لا هو بغاش. كذلك لو قسناها على الأراضي؛ كيف لمجتمع مُوثِر أن يحبس الأراضي البيضاء عن المحتاجين للسكن؟ أصحاب الأراضي في تلك المجتمعات المُؤثِرة يقومون بأنفسهم بتقسيم الأراضي و تطويرها و تحسينها و تجهيزها بكل مستلزماتها حتى تكون صالحة للاستخدام ثم يبيعونها للمحتاجين للسكن بالسعر و الطريقة التي يرونها تتلائم مع أوضاعهم ـ المشترين ـ و تسهل عليهم تملكها. في المقابل، يقوم المشترين بالتعامل معهم بكل ثقة فلا يتأخرون بدفعاتهم المالية لهم و يكرمونهم أيضاً لأنهم أحسنوا إليهم. في هذه المجتمعات لا يوجد فقير يطلب، فالمعونة تأتيه لأن المجتمع لا يرضى أن يعيش فرد فيه عيشة لا تليق بإنسان. و لا يسرق السارق، لأنه يعلم أن ليس في سرقته إلا ضرر شخصي و ضرر متعدٍ على غيره أيضاً، فيكف يده عن جريمته. كذلك المغتصب و المرتشي و المغتاب و الفاجر و اللعان، كلهم لا يتعدون على أحد، لأنهم ببساطة إن بحثوا عن المصلحة لغيرهم فلن يسلكوا هذا المسلك الذي لن يؤدي إلا للمفسدة لهم و لغيرهم.


هذه المجتمعات كيف نصل إليها؟ هي لست مجتمعات بعيدة المنال، ليست صعبة الوصول، و ليست مقصورة على أحد. لم يختصها الله لدين معين، و لا لطائفة معينة. هي للمجتمعات التي يتم تعزيز ثقافة الأخلاق فيها. ينشأ الطفل في بيتٍ و مدرسة و مجتمع يتعامل كل فرد فيه بالأخلاق، يرضعه مع حليب أمه، و يتلمسه في تعامله مع صحبه، و يراه جلياً واضحاً في كل منحى من مناحي حياته. الخطوة الأولى ليست بالوقوف على المنابر و الترويج لهذه القاعدة، الخطوة الأولى هي أن تبدأ "أنت" بتطبيقها، في سلوكياتك و تعاملاتك مع الآخرين. في البيت مع أهلك و خادمتك و سائقك، و في المدرسة مع مدرسيك و صحبك، و في الشارع مع كل من تصادفه. ابتسم لهم لأنك تحب أن تراهم سعداء، و امسك الباب لمن هو خلفك لأنك تريد أن تشعره بأنه شخص مهم بالنسبة لك، و احمل الأغراض إلى سيارة أحدهم ليشعر بأن له أخ في هذا المجتمع لا تربطه فيه قرابة. ابدأ بالأشياء الصغيرة و لا تحاول الترويج للقاعدة بلسانك، فحديث أفعالك له وقع أقوى في نفوس الآخرين من أقوالك.