2011/05/10

الجميلة






بهية الطلة كانت، جميلة المحيا. لها ابتسامة دافئة تريح الأنفس، و صوت هادئ مرتعش يذيب كل
هم يلم بالصدر. كانت صفات الأنوثة تتطغى على شخصيتها البدوية الملامحة، و بالرغم من
قساوة ظروف الحياة و صعوبة العيش إلا أنها ما زالت تتمسك بتلك الصفات الجميلة و الابتسامة
الهادئة. اجتمعت فيها التناقضات فزادت من جمال شخصها جمالاً. فهي القوية وقت الحاجة، و
الضعيفة المحتاجة حينما تصعب الأمور عليها. تخاف من الظلام كثيراً ! و تحب أبناءها كثيراً !
لا تستأذن الدموع عينيها أبداً، فهي رقيقة القلب، صادقة المشاعر، سريعة التأثر بما يدور من
حولها.

زيجتها دامت قرابة الستين عاماً، و في تلك المدة كلها ما وجد منها زوجها شراً محضاً، و لا
تذمراً و لا نكداً. و في بيئة جافة التعامل، و في وقت يشحّ الناس فيه بالكرم و الإيثار تفرّدت بتلك
الصفات، فكانت تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، و تحب حباً لا يعرف للحد أي معنى.

و بالرغم من كبر سنها إلا أنها لم تزل متمسكة بجمالها الذي لا تواريه مساحيق التجميل و لا
أدوات التزين، و روحها الشبابية و أنوثتها الجميلة رسمت لها طريق المحبة من الجميع، فبات كل
من يعرفها يذكرها بالخير و الخلق و الصلاح. كانت تسامر الكبير، و تجالس الصغير، و تعطي
الفقير، و تآنس المعتاز، و تبكي بعد ذلك كله على تقصيرها و على جفاف الرحمة في عالم لا
يرحم.

كانت جدتي سريعة التأثر بالمواقف، ندية الخد بالدموع. فبعد أسبوع من انتقالي لدراسة الطب
في أبها وجدتها في غرفتها تبكي، و حين سألتها عن سبب بكائها قالت أنها ترحم أمي كيف رحل
بكرها و أخوه للدراسة بعيداً عنها، و طلبت مني ألا أقصّر في حق أمي بالاتصال بها بين حين و
آخر. لا يطيب لها طعام حينما لا نكون معها على سفرة واحدة، و لا تشتري إلا إذا كان لمن في
البيت قسم منه ! كانت تخبئ الحلوى في أماكن نعرفها جيداً، و لا أستبعد أنها تعرف و لكنها
ترحمنا فتجعلنا نأخذ منها متى ما أردنا!


كانت جدتي قوية الإرادة، إذا أرادت شيئاً ثابرت عليه حتى تحصلّه. فهي بالرغم من أمّيتها إلا
أنها تحب الإطلاع على كل شيء ! فحينما دخلت على مكتبة عمي قالت له: أحسدك على النعمة
التي أنت فيها، فلو كنت أستطيع لقرأت كل كتبك ! و كانت كثيراً ما تمسك بالجرائد رأساً على
عقب مدعية القراءة ! و كنت أمازحها دائماً : مسوية جالسة تقرين ؟ الجريدة مقلوبة ! و كانت
ترد علي بابتسامة و تقول : أهم شي الصور !

دخلت بعد ذلك محو الأمية لتتخرج من الصف الأول الإبتدائي بالأولى على فصلها، و كانت
تجلسني بجوارها دائماً و تختبرني في الأرقام و الحروف بخط طفل في الصف الأول، و كانت
تفرح كثيراً حينما تريني كتابتها للعشرة أرقام في سطور مائلة. و سرعان ما نست الأرقام و
الحروف بعد ذلك.

طباعها تختلف كثيراً عن طباع جدي، و شخصيتها الجميلة تكمل شخصية جدي، فكانوا كثير
المناوشات و المناقشات الحادة التي لا يستطيعون العيش من دونها، و لكن لا يلبث أن يسافر
أحدهم للعلاج حتى يتصل به الآخر معبراً عن اشتياقه له بالدموع و الكلمات الحنونة ! فإذا عاد،
عادت المناوشات معه و ابتسمنا لهم لعلمنا أنهم لا يطيقون العيش دون بعضهم.

في إحدى الليالي جاءتنا في زيارة علاجية و انطفأت الكهرباء عن الحي، فكانت تجلس معنا في
صالة المنزل و نحن نحيط بها، أمي و أبي و إخوتي، نحمل الشموع بأيدينا و من حولنا، و كانت
تلتفت يمنة و يسرة بين حين و حين خائفة من الظلام! و قد بدى على وجهها الخوف و نحن نستفز
فيها ذلك الشعور ! حتى إذا ما حانت ساعة النوم قام أبي ليستأذن للنوم فحلفت عليه ألا ينام إلا
معها ! ليرد أبي عليها و يقول أنه سينام مع زوجته في غرفتهم، فقالت : انت و زوجتك ما
بتنامون إلا عندي الليلة ! و حينما عادت الكهرباء سمحت لهم بالنوم في غرفتهم.


في ليالي الاختبارات، و حينما كنت أدرس الطب في أبها كانت تسهر كثيراً معي و تعد الشاهي
لي و القهوة، و كانت تعطيني بعض النقود للتبضع بما ينقصني، فكانت أمي الثانية، و القلب
الحنون البديل لقلب أمي و الذي ابعدتني الدراسة عنه. كانت تتواصل مع أهلي بأخبارنا و كانت
تنقل لهم كل جميل عنا و تخبرهم بما يحصل معنا و هي تعتقد أننا لا نشعر بذلك، و لكنها
بروحها الجميلة و قلبها الطاهر لا تستطيع أن تخفي ذلك أبداً. كانت تحب كثيراً أن نفاجئ أمي و
أبي بزياراتنا، و حينما نعود إليها لنخبرها بردّات فعلهم كانت تستمع إلينا بابتسامة جميلة و
الدموع على خدها.

في السنوات الأخيرة، بدأ إخوانها يفارقون الحياة الواحد تلو الآخر، مما أدى إلى ضعف قلبها
زيادة على ضعفه السابق. و من عملية إلى أخرى حتى أثقلتها العملية فصعبت الحركة عليها و
باتت أنفاسها أثقل مما كانت عليه. و لكنها بالرغم من جميع مصاعب الحياة إلا أنها كانت تحب
الحياة ! كانت تحب زوجها و أبناءها كثيراً، و أحفادها ينالون جزء كبيراً من قلبها المتعب، و لا
تعرف للكره أي معنى !

تتجلى صفات الكرم فيها بشكل كبير، فهي تعطي من تعرف و من لا تعرف، و تتصدق على
الفقراء في كل ساعة و حين، و تصل رحمها و تعذر من قطعها، و بالرغم من ظلم البعض لها إلا
أنها تستطيع أن ترى زوايا جمال الحياة في الأمور كلها !

كانت أماً عطوفة، و زوجة صالحة، و جدة حنونة، و إمرأة يشهد الجميع لها بالخير !

و في صباح السبت الموافق 2011/5/7 م وافتها المنية في المستشفى العسكري في مدينة خميس
مشيط إثر عملية لشفط السوائل من جسدها، كانت تكره المستشفيات ! ففي الليلة التي تسبق
وفاتها قالت لأبنائها: لا تنسوني في المستشفى ! و ماتت صباح تلك الجملة.

وقف الجميع حول قبرها حينها أنفجر جدي بالبكاء! ذلك الشيخ الجليل الطاعن في السن، إمام
الحارة و شيخ الجماعة، من لم تفته صلاة ضحى و لا قيام ليل، و لا صلاة الجماعة لمدة لا أعلم
حداً لها، حتى ورثت منه جدتي تلك الصفات فحافظت على صلاة الضحى و قيام الليل، و في كل
يوم تتصل على ابنها لتسأله: أصلي الضحى الحين و الا باقي ما دخل وقته ؟ حينما وقف جدي
على قبرها باكياً كان يقول: يا الله، هذه عشيرتي سلمتها لك، لم أرَ منها سوء قط، ما زعّلتني و
لا كدرت خاطري، و لا عصتني في شي، يا رب احفظها و أكرمها و أدخلها الجنة !


لم تعد الخميس كما كانت يا جدتي ! و ما العيش من دونك يطيب ! كيفي بك و أنتِ تخافين
الظلام في تلك الحفرة الصغيرة لوحدك، لا أنيس يؤانسك و لا جليس يرد الصوت لك. والله إن
الدموع لا تخجل النزول من أجلك، و والله إنا على بعدك محزونين، فاللهم ألهمنا الصبر و
السلوان و أجرنا على مصابها و فقدها. آمين.