2010/11/24

اختيارات

تصوير : F ® u i t y




الحياة ليست لعبة كما يقولون. نحن لم نخرج من بطون أمهاتنا و في أيدينا كتيب إرشادات
لهذه الحياة، و لكننا نعلم أن الحياة لم تنشأ بمحض الصدفة، و أننا فيها ما بين التسيير و
التخيير، فمنا من ينجح و منا من يفشل، و منا من يسعد و منا من يشقى، و منا من
يعجز و منا من يثابر، و ما نحن إلا إلى ما كتب لنا سائرون. و لكن، لا نزال نملك
حق الاختيار !


الحياة مبنية على الاختيارات، ففي كل منعطف نواجه خيارين : خيار البتّ، و خيار الإعراض.
و كل خيار يفضي إلى خيارات أخرى. إن حياة كل واحد منا مبنية على خياراته التي أختارها
ـ أو اختيرت له ـ في الماضي، فمن نجح في حياته فإن نجاحه مبني على اختياراته بعد
توفيق الله و فضله و حكمته، و من فشل فذلك يعود لخياراته أيضاً لحكمة أرادها الله.

إنك لو خيرت بين وظيفتين، وظيفة تتطلب منك العمل أربع ساعات يومياً براتب مقبول،
و بين وظيفة تتطلب منك العمل ثمان ساعات براتب أفضل، لاخترت الأفضل من وجهة
نظرك و بالنظر إلى ظروفك التي تحكمك و تحيط بك، بعد مفاضلتهما في عقلك و موازنتهما
بينك و بين نفسك. لكن قرارك هذا ـ لعلمك ـ يغلق أمامك أبواباً ما كانت لتفتح إلا
باختيارك الخيار الثاني، و يفتح لك أبواباً كانت ستغلق باختيارك الخيار الثاني، أيضاً.



و هكذا نحن نسير إلى خيارات تتبعها خيارات. إلى حين أن نصل إلى مرحلة نتوقف فيها
عن الاختيار، لنأخذ نفساً عميقاً و نلتفت إلى الوراء، لنشاهد كمّ القرارات التي اتخذناها،
و نتعجب من بعض الخيارات، ثم نعود بناظرينا إلى مواضع أقدامنا فنتساءل : هل نحن
سعداء بتلك القرارات التي اتخذت؟ و هل نحن راضون عما وصلنا إليه؟


البعض منا يدرك خطأ بعض قراراته و لكنه يستثقل العودة إليها لينتقل إلى بديلها، فمسافة
العودة لها ـ في نظره ـ أبعد و أغلى من الرضى بها و التعايش معها، و الوقت الذي
تتطلبه هذه العودة يمكن قضاؤه في قرارات لاحقة صحيحة تخفي فداحة أخطائه
السابقة. البعض الآخر يختار العودة لأنه يؤمن بأنه لو سار دون العودة إلى تلك القرارات
الخاطئة لانتهى به الأمر إلى نتائج لا ترضيه، و لعلقت في ذهنه صورة تلك القرارات حتى
مماته، فهو يعود إليها ليصححها و يختار بديلها و ينجح في ذلك، و لكنه في ذات الوقت يخسر
المسافة التي قطعها غيره في الوقت الذي كان يعود فيه لتلك القرارات. و آخرون لا يتوقفون
أبداً، بل هم مع الزمن في سباق، لا الزمن يسبقهم و لا هم بسابقيه، فالمنعطفات في أعينهم
لعبة حظ، إن أخطأوا اليوم أصابوا غداً، و إن أصابوا اليوم ما ضرهم خطأ الغد. فتجدهم
متذبذبين ما بين النجاح و الفشل.

يقولون أن كل خيار تختاره له قيمة، قيمة هذا الخيار هو أعظم خيار بديل تستغني عنه. فلو
افترضنا أنك اشتريت قهوة بعشرة ريالات فانك هنا اخترت شرب القهوة و كانت قيمة هذا
الخيار هي العشرة ريالات التي دفعتها. كذلك الطالب الذي اعتاد الحصول على ٩٠٪ في
اختباراته بمعدل ثلاث ساعات دراسية يومياً، فإذا قرر زيادة ساعة يومياً لتصبح أربع ساعات
فإن قيمة هذا الخيار هو حرمانه من ساعة راحة، أو ساعة جلوس مع أصحابه، أياً كانت في
نظره أهم و أغلى، و لكنه بذلك يحرز ٩٥٪ في اختباره، فمكسب اختياره ذلك هو الـ ٥٪
الإضافية.

إن الحياة كلها تسير وفق اختيارتنا اليومية، بسيطة كانت أم عظيمة، فعامل النظافة لم يختر
تنظيف الشوارع لأنه يريد لنا العيش في بيئة نظيفة، و لكنه يطلب قوت عيشه، كذلك عامل
توصيل الطعام لم يختر وظيفته ليسهل علينا مشقة الذهاب إلى المطعم، فهو ينتظر راتبه آخر
الشهر. انهم باختياراتهم تلك يتنحون عن خيارات أخرى ـ كالجلوس مع من أحبو أو الراحة ـ
من أجل مصلحة أعلى تبدو لهم.


إن تعليق الفشل على شماعة الحظ مهارة يجيدها المتقاعسون الخاملون، فمن أخطأ مرة بإمكانه
المحاولة ألف مرة ليخترع لنا الكهرباء أو ليفجر لنا من عقله ينبوع ماء. لا ينبغي لمن أراد حظوة
من هذه الدنيا الوقوف حسرة على كل نكسة في حياته، إنما هي وقفات اعتبار و عظة، فالحياة
كما قالوا هي المدرسة الوحيدة التي تختبرك قبل أن تعطيك الدروس.

قبل اختيارك فكر،
و في أثنائه لاحظ،
و بعده راجع و تفكر و تذكر.
ثم انطلق لما هو بعده حتى تصل و تنجح ـ بإذن الله ـ !

2010/08/04

تأثير الفراشة


عدسة : شعاع





يقول أحد الفلاسفة : لو أنك جلست في مقعد آخر غير مقعدك في سنوات الحضانة لاختلفت
شخصيتك.
و بناء على ما يقوله هذا الفيلسوف فإن حياة هذا الشخص على إثرها ستتغير، فإذا
تغيرت حياته كان لزاماً على هذه الحياة كلها أن تتغير !

أعود لأطرح الموضوع من زاوية أخرى؛ تقتضي قاعدة تأثير الفراشة (The Butterfly
Effect)
ـ و هو مصطلح فيزيائي فلسفي ـ أن رفّة جناحي فراشة في الصين قد تؤدي إلى
فياضان في الجانب الآخر من العالم، كأمريكا أو أوروبا. و هي قاعدة تفسر ظاهرة الترابط بين
الأحداث الصغيرة و التي قد تؤدي إلى أحداث عظيمة.

في إحدى المسلسلات الأمريكية التي كنت أتابعها بشغف و أقطع بها ساعات الملل أثارت
اهتمامي إحدى الحلقات فيها، كانت تلك الحلقة تصف حال البطل في ذلك المسلسل و الذي كان
يعيش حالة تأنيب للضمير استمرت معه لفترة حيال حياته التي لم يقدم فيها شيئاً سوى الآلام
لمن حوله و من هم أقرب الناس إلى قلبه، و في تلك الحلقة استطاع المخرج أن يعيد البطل
بطريقة أو بأخرى إلى ماضيه و أن يضع إصبعه على مواضع هامشية في حياته لم يكن لها
ذلك الأثر من الاهتمام حينها و لربما قدمها البطل لغيره من الناس كسجية منه، و لكنها تلك
الأمور التي لا نعيرها اهتماماً هي التي تقوم غالباً بتغيير معالم الحياة !
فبمجرد حمله لدفتر
سقط من يد طالبة كانت تظن نفسها قبيحة و درّه لها بابتسامة استطاع أن يكسر حاجز
الخوف من المجتمع لديها و يبني فيها تلك الثقة التي هدمها المحيط حولها، حتى عاد المخرج
لينتقل به إلى المستقبل فيرى تلك الفتاة ناجحة في حياتها بسبب ذلك التحول الكبير الحاصل م
موقف بسيط لم يعره البطل أي اهتمام. و على خلاف ذلك، قام المخرج بالتماشي مع مخطط
عقل البطل الإنهزامي و السلبي في حالة تأنيب الذات تلك ليقوم بشطب بعض الأفعال التي
أساء فيها البطل لغيره حينها، ثم تقدم إلى المستقبل قليلاً ليجد أن ذلك الشخص الذي أسيء
إليه قد آلت حياته إلى مصير سيء كان بالإمكان تداركه بفعل خاطئ يقع فيه في ماضيه.

و في أحد أفلام هوليوود التي نالت على بعض الجوائز شدني مقطع فيها حيث وقع لحبيبة
البطل حادث أعاقها عن إكمال مشوارها الناجح في دروس الباليه و عروضها، فعاد بتسلسل
الأحداث إلى الوراء بكلمة "لو" التي تأكل الروح من الداخل، و لا تغير شيئاً من الخارج. فكان
يقول لو أنها لم تستمع إلى قبل خروجها و لم تعد إلى لتقبّلني و لم تركض الهرة من أمام
السيارة و لم تكن هنالك سيارة أصلاً لما حدث الحادث.

إن الأحداث البسيطة التي نقوم بها في حياتها، أو لا نقوم بها، لها بالغ الأثر في تشكيل أبعاد
هذه الحياة التي نعيش، و هي الألوان التي من خلالها نلون بها حيوات غيرنا بجانب حيواتنا.
فها هو ستيف جوبز ـ المدير التنفيذي لشركة آبل ـ : “القرارات الأكثر أهمية التي تتخذها
ليست أموراً تقوم بها بل إنها أمور تقرر عدم القيام بها"
. إنك حينما تقوم لتقدم وردة بلا
مناسبة إلى أمك قد لا تعني لك ذلك الشيء الذي يقع في قلبها فيغير من تعاملها معك و مع
إخوتك الذين قد ينشأوا على إثر ذلك على تربية مختلفة تخرج منهم أشخاصاً آخرين ليعطوا
للحياة ألواناً أجمل من تلك الألوان التي كنا نعتقد الجمال فيها.

لا ينبغي عليك أن تكون قائداً لتغير العالم، بل ابتسم و اضحك و تغاضى و سامح و قم و
شارك فحتماً بذلك ستغير. فالقائد المغير لم يولد قائداً بل عاش حياة خالط فيها مبتسماً و
ضاحكاً و متغاضياً و مسامحاً و مشاركاً شكلوا شخصيته و ساهموا في تغيير هذا العالم.
فلنعر أحداثنا البسيطة جزء أكبر من الاهتمام.

2010/02/23

مصر ( أم الدنيا ) ـ ٣

في اليوم الثالث، و في الأيام المتبقية التي تلتها، كان جدولنا يبنى في يومه. فمبدأ الديموقراطية
في اتخاذ القرارات و المشاورة بدأ يرتفع، و حرية الذهاب مع العائلة أو الجلوس في الفندق متاحة!
بعد أخذ " دوش " دافئ و إفطار جميل، جلست أقرأ في كتابي. و هنا أقف أيضاً وقفة، نحن
نختلف فيما بيننا في أمور كثيرة، في تفضيلنا لألوان على حساب ألوان أخرى، في ذوقنا في
لباسنا، و في اختلاف نظرتنا و حكمنا لنفس الشيء، و أنا في القراءة أختلف عن مجموعة كبيرة
من الناس و التي تفضل و تبدع فيما يسمى بالقراءة السريعة. أما أنا ففي قراءتي فقد أنظم إلى
فئة المتلذذين بالكتاب. فحينما أقرأ عن السياسة فإني أستمتع بالمفردات اللغوية و الجمل التعبيرية
و التراكيب الأدبية التي يستخدمها الكاتب، إضافة إلى المعلومات السياسية طبعاً و التي هي أساس
و فكرة الكتاب. فقد أخذ كتابي هذا الذي لا يتجاوز المئتي صفحة مني قرابة الأسبوع حتى انتهيت
منه لأني أحب أن أقرأ و أتوقف عند الجمل التي تعجبني ثم أضع تحتها خطاً و أخرج بفائدة
تكتب في أعلى أو أسفل الصفحة، ثم أقف لأتفكر في الجملة نفسها و كيف توصل لها الكاتب
و كم من المواقف التي مررت بها و لم استنتج منها ما استنتجه الكاتب، ثم أعود أخيراً إلى غلاف
الكتاب في لحظة تأمل ثم أتابع. هنا لا أقول أن أسلوبي أو أسلوبك أنت أيها القارئ هو الأفضل.
فلكل أسلوب إيجابياته و سلبياته، و لكل أسلوب متبعيه و محبيه و ما يناسب أهدافهم و
نمط شخصياتهم، و لا يعني هذا أبداً أن تكون قراءتك دوماً باتباع أسلوب واحد فقط، فتختلف
الأساليب باختلاف الهدف المنشود من القراءة.


بعد الإفطار، و في جناحنا بالتحديد، اجتمعت العائلة لإعلان برنامجنا لليوم. كنا قد اتفقنا
على زيارة المتحف القومي فكان هو اختيارنا الأول. توجهنا مع محمد إن شاء الله إلى
المتحف القومي، و في طريقنا مررنا بالمسرح الذي قتل فيه أنور السادات و قبره و الذي يقولون
أهلي بأننا زرناه في ليلة الأمس حينما كنت نائماً في السيارة " و لا فكروا يصحوني ! “.
مررنا أيضاً بتمثال طه حسين في الجيزة، و تمثال نهضة مصر، و حديقة الحيوان، و
فندق الفور سيزون.

عند دخولنا إلى المتحف القومي قام الوالد بدفع تذاكر الدخول في الوقت الذي كنت ألتقط فيه
صوراً للعائلة و للمدخل و للبركة المقابلة للمتحف. في الساحة المحيطة بالمتحف كانت الجموع من
مختلف الأجناس و الجنسيات و الأعمار و الأديان، الأبيض و الأسمر، و الأصفر و الأحمر،
و الطويل و النحيف، و الصغير و الكبير، كلهم حضروا لمشاهدة العصر الفرعوني و
تاريخ مصر ( أم الدنيا )! عند دخولنا إلى المتحف قاموا بأخذ كاميرتي لعدم سماحهم بدخول
الكاميرات. أخذنا جولة سريعة جداً جداً في المتحف، في قرابة الساعتين أو الساعة و النصف،
و لم نستطع خلالها تغطية المتحف كاملاً! كان المتحف، بالرغم من صغر حجمه مقارنة بالمتاحف
العالمية، متشبعاً بالتحف الأثرية و القطع التاريخية. رمسيس الثاني، فرعون موسى، كان هو
هدفي و هدف عائلتي كما أعتقد من زيارة ذلك المتحف. الشيء المستغرب ـ و الذي لفت انتباهي
أخي الذي يصغرني له ـ
أن أطوالهم كانت عادية جداً! فكنت أتصور لكونهم من العصور الفرعونية
و الزمن الذي يفصل بيننا بأنهم سيكنون ذي قامة أطول من قاماتنا، إلا أننا فوجئنا بعدد كبير
منهم أقصر منا في حدود الـ ١٧٥ سم أو ما يقاربها. لم أشعر عند زيارتي للمتحف القومي بتلك
الهيبة التي توقعتها إلا عند مشاهدة الرأس المذهب الذي يلبسه الفراعنة! كان شعوراً جميلاً جداً.
رأس مصنوع من الذهب و عند الأذن فتحة صغيرة لوضع الحلق فيها. حجمه كان كبيراً مقارنة
مع رؤوس الفراعنة الموازية لأحجام رؤوسنا. مررنا بما استطعنا من التحف سريعاً، لم نتوقف
لقراءة المعلومات عنها لأن زيارة المتحف من وجهة نظري تستلزم عليك أخذ مرشد ليعطيك
" الزبدة ". كان في المتحف مشهد جميل استرعى انتباه الجميع و هو في كون عجوز يمشي
وراء حفيده و الذي لا يتجاوز السبع سنوات تقريباً و يخبره عن تاريخ مصر بأسلوب جميل،
و الصغير يمشي و جده خلفه يسير. ثم يتوقف العجوز فيعود له حفيده و يتحادثان بأسلوب
حميمي و رباط من المحبة بينهما عجيب! أثار شجوني ذلك المنظر و تتبعتهما بنظري كثيراً
حتى خرجنا.

عدنا بعد ذلك إلى الفندق، و بدأ البرنامج المفتوح. كعادتي أنا و أخواني ذهبنا للسينما، أما أخي
الكبير فقد ذهب لقراءة الكتب التي أحضرها معه، فهو يستمتع كثيراً بقراءة الكتب و الذي بسببها
يعارضه أبي على كثرة قراءته. من وجهة نظر أبي أن الرحلة خصصت للعائلة، و أخي يقول أن
الهدف من الرحلة هو الاستمتاع و قضاء فترة نقاهة بعد عناء فصل دراسي كامل، و هذا ما يجده
مع الكتب. و هنا نقطة توقف أتركها لكم.


في اليوم التالي ذهبنا إلى الأهرامات مع محمد إن شاء الله، و حينما لاحت لنا الأهرامات من خلف
الأفق شعرت بشعور غريب، " شعور مصري أول مرّة يشوف الكعبة " ، كان شعور لا يوصف، لم
أستطع أخذ صورة لها تشفي غليل صدري و أنقل إليكم أحاسيسي عبرها. عند مواقف السيارات
تجمع المصريون حولنا كل يعرض علينا مركبته " التوك توك بتاعه " و هي العربة التي يجرها
حصان. اتفق الوالد مع ثلاثة منهم على مبلغ و قدره، حيث تفاجأ بحجم المبلغ قياساً بالوسيلة التي
سننقل عليها و المبلغ العقلاني الذي تستحقه. التفت الوالد إلى محمد السائق و عاتبه عن كونه لم
يحاول أن " يكاسر " المصريين حيث أعتذر محمد عن سهوه. عند مدخل الهرم توقفت العربات
لكي ننزل على أرجلنا و نأخذ تصاريح الدخول. عند بوابة الدخول قال البواب أنه يلزم على
الفرد الواحد جنيهين فقط، فالخليجيين كغيرهم من المصريين في تكلفة الدخول، إلا الذين لا
يحملون جوازاتهم فيلزم الفرد منهم خمسين جنيهاً! هنا تعجب الوالد من سهو محمد مرة
أخرى و إخفائه هذه المعلومة عنا فعاتبه مرة أخرى، و كان رد محمد حينها [ آه، اليوم باين
انو مش يومي ]
. أكملنا جولتنا على الأهرام الثلاثة: خوفو الجد، خفرع الأب، و منقرع الابن،
أو العكس. كانت تجربة جميلة و هي العلامة البارزة في رحلتنا إلى مصر بالنسبة لي. و حين
عودتنا إلى السيارة سأل صاحب التوك التوك الذي يركبه والداي مع أختي الصغيرة عن إذا
كان أبي يأتمن محمد؟ فأخبره أبي أنه لا يدري! فعرض عليه أن يختبر محمداً و صدقه و
أمانته، حيث عرض عليه أبي خمسين جنيهاً إذا استطاع أن يثبت خيانته للأمانة. و هذا ما
حدث، فبعد استلام أصحاب " التكاتيك " الثلاثة لمبلغهم و الذي هو ٣٧٠ جنيهاً، و الذي كان
من المفترض على حد قول صاحب الشركة السياحية أن يكون خمسين جنيهاً فقط لجميع
العربات الثلاثة معاً، ذهب محمد إليهم و سألهم عن نسبته منها حيث كان الوالد في محل مجاور
يشهد الحادثة من خلف الزجاج. في الحقيقة، كان المشهد مضحكاً، فقد ظهر أبي كأحد أبطال
الأفلام البولوسية و قد حان الفيلم على الإنتهاء حينما يقبض الشرطي على الجاني! خرج أبي
على صاحب " التوك توك " و ناوله الخمسين جنيهاً ثم تجادل مع محمد حول خيانته فتعبجت
من سرعة رد محمد ـ سواء أكان صادقاً أم كاذباً ـ حين قال: [ ده الفلوس اللي حاخودها أصلاً
حترقع لك ! ]
فأعود و أقول في نفسي " لا يا شيخ ! “ سأله حينها أبي لماذا لم يقل له ذلك
من قبل ؟ فأخبره أنه لم يكن يعلم أننا نريد الذهاب إلى الأهرامات و أنه لا يشتغل على سياحة
الأهرامات و إلا لكان أخبرنا بإحضار الجوازات و تخفيض " التوك توك ". من وجهة نظري
الخاصة أعتقد أن الموضوع فيه إنّ. فعدم توقعه لنا لزيارة الأهرامات و عدم اشتغاله عليها
كمن يستغرب من أجنبي أتى إلى مكة لزيارة الكعبة! و إذا كنت تشتغل في مجال السياحة
المصرية و تسكن القاهرة فإنه و من الأكيد أن غالبية السائحين، إلم يكونوا كلهم، قد وضعوا
زيارة الأهرامات ضمن جداولهم. بغض النظر عن صدقه من عدمه لن تكون هذه نقطة نقاشي
هنا، فما أريد الالتفات له هو شعور الخيبة و الصدمة التي تولد في نفس أبي حينها، و
ملامحه التي تنطق بأحاسيس الألم تجاه خسارة من أتمنه على ماله. في حياتي كلها لم أر و
أشعر بصدمة يواجهها أبي كهذه إلا مرة واحدة. حينها قلت في نفسي: أيوجد شيء يدمي
عروق القلب مثل جرح الخيانة؟ أو بعبارة أدق، هل هناك أمر من رؤية من وضعته في
منزلة عالية يهوي أمام عينيك؟
لا أعتقد!


أكملنا بقية أيام رحلتنا في زيارات مختلفة: قصر صلاح الدين ـ مسجد المماليك ـ مسرحية سمير
غانم ـ مطاعم قروية ـ سينما
. و الجدير بالذكر هو أحد الأفلام التي شاهدناها في السينما، و هو
فيلم هندي اسمه: My Name Is Khan. بطولة شاروخان، و هو من أجمل الأفلام التي رأيتها،
و التي تحكي نظرة العالم للمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، و كيف أنه يمكن
لجميع الأديان العيش في السلام باحترامها لمبدأ اختلاف الأديان، مع تحفظي على النقطة الأخيرة.

كان حضور فيلماً مصرياً إحدى التجارب الجميلة التي قمت بها، فحضورك لفيلم مصري في
سينما مصر و بحضور المصريين " توووحفه "!. منذ أن بدأ الفيلم حتى انتهى و الأحاديث
الجانبية لم تتوقف، و ركض الأطفال على ممرات السينما صعوداً و نزولاً لم ينته، و تصفيق
المشاهدين لبعض مشاهد الفيلم و التصفير يشعرك بأنك في ملعب و ليس سينما! و وقفت
الاستراحة التي تشتهر بها السينما المصرية في منتصف الأفلام لتتمكن من شراء الفشار مرة
أخرى أو مشروب غازي أو زيارة دورة المياة، كلها معاً شكلت معي انطباعاً مختلفاً عن الشعب
المصري. فالذي يزور مصر سيلحظ كيف أنهم شعب مترابط على بعضه، و كيف يمشون في
جماعات أياديها على أكتاف بعض، و هو ما قل في أيامنا هذا مشاهدته في طرقاتنا و أماكن
تجمعاتنا. إني أعمد أحياناً مع أصدقائي إلى معاضدتهم و مكاتفتهم و حتى معانقتهم، فأجد
منهم استحياء و خجلاً من ذلك، و هو شعور لا أفهمه، فعناقي لك هو إحدى الطرق الذي أعبر
لك فيها عن مدى حبي لك، فلم الخجل ؟

إلى هنا، أتوقف عن السرد، فبقية تفاصيل الرحلة لا جديد فيها و لا مفيد. أتمنى أن تكون هذه
الحلقات الثلاث قد رسمت لكم صورة مبدئية عن الحياة المصرية في القاهرة، من وجهة نظر مختلفة و
بأسلوب مختلف. أشكركم.

غداً سأقوم بالتعقيب على جمبع ردودكم في التدوينات السابقة. أأسف على التأخير!



صور منتقاة:

أختي الصغيرة بعد الفطور في حديقة الفندق

كبري أكتوبر و الذي يبلغ طوله ٤٠ كيلو متر تقريباً

مدخل المتحف القومي

هذا يشبه القناع المذهب اللي تكلمت عنه

لقطة شاعرية ثالثة

تمثال طه حسين

أثناء توجهنا للأهرامات على التكاتيك بين الحواري

مع الأهرامات

صورة لمقارنة الهرم بحجم الحافلة

أبو الهول في المقدمة، و يعتبر حارس الأهرامات

ملاهي ٦ أكتوبر، مو مرة!

لعبة الشلال، و لقطة تظهر فيها جموع الناس اللي تقف فوق المركبة لكي تتبلل بالماء!

لاما! أول مرة أشوفها.

لعبنا شوية تنس

عشاؤنا في المطعم القروي، و الذي أكل فيه معظم الفنانين المصريين بما فيهم تامر حسني.

أخوي يقف داخل ممر الميترو، و يظهر قصر ارتفاع ممراته.

اللقطة الأخيرة للانتركونتنيتال


2010/02/17

مصر ( أم الدنيا ) ـ ٢

في صبيحة اليوم التالي بدأت يومي كالمعتاد، استيقظت في تمام الساعة الثامنة و النصف،
"تروشت"
، ارتديت لباسي، ثم نزلت إلى البهو لتناول وجبة الإفطار. أحب أخذ "دوش" في
حمامات الفنادق، و هي عادة لم استطع التخلص منها! فأضواء دورة المياه و تصميمها و
ستائر "البانيو" و علب الشامبو الصغيرة و المناشف و الخصوصية التي تنبعث مع حرارة المياه.
كلها معاً تعطيك حالة من الاستقرار و الراحة و شحن لطاقة يوم كامل. لم تكن خدمة الإفطار
في اليوم الثاني على المستوى المأمول، فتعامل القرسون تكاد تكون من دون نفس، و أصناف
الطعام لا تعدو أن تكون مكررة و باردة، بعد حمد الله على النعمة طبعاً! و بالمناسبة، فإن
الشعب المصري حتى هذه اللحظة ليس تماماً كما يقال عنه ( نكته )! و هذه نقطة يجب التأكيد
عليها في كل جزء !

بعد تناول وجبة الإفطار جلست أقرأ في كتابي منتظراً نزول أهلي و انتهائهم من تناول وجبة
الإفطار لننطلق بعدها إلى معرض الكتاب. جلست معهم و كانت أختي بجواري تلبس نقابها و
كلي فخر بها، فهي و بالرغم من صغر سنها مقارنة مع شقيقتها السعوديات الوحيدة التي لم
تتنازل عن نقابها، و غالبية السعوديات كذلك إلا في فترات بسيطة كساعات الفطور و ما
شابهها، و أنا هنا لا أفتي جوازاً و لا تحريماً و إنما هو شعور أسطره بفخري لذلك الحياء
الذي يتأصل في نفوس البنات ليجعل منهن إناثاً أكثر، يشور عليها أبي عطفاً عليها حيناً بأن
تجنب نقابها قليلاً أو تتحجب فقط لتتمكن من الأكل و أخذ راحتها و هي ترفض بلباقة و تبتسم
لي و لأخواني الذين يكبرونها لتجد منا التأييد بالنظر لتصرفها. كم هو جميل خجل الأنثى.

انتهينا من وجبة الإفطار و توجهنا إلى سيارتنا، في الطريق أخذ " محمد إن شاء الله "
يتحدث عن القاهرة و عن المناطق التي تمر بجانبنا في طريقنا إلى المعرض. الغريب أن هناك
نسبة كبيرة من العمارات و المساكن التي لم تصبغ بعد، بل أنها لم تليّس بعد! و هي مكتضة
بالسكان. الحالة المادية لا تسمح بأكثر من طوب أحمر مرصوص فوق بعضه والسلام.

وصلنا إلى المعرض. عدد الزائرين مهول، و غالبيتهم ما دون العشرين، منظر يبهج الناظرين
نحو التفات الشباب للقراءة و اهتمامهم بالثقافة. كانت الشمس حميمية أكثر من أي يوم
مضى، فحرارتها لم تدع لنا مجالاً للتصفح و الاستمتاع بالمعرض. لم يدم مكوثنا في المعرض
أكثر من العشر دقائق، فحرارة الشمس و عدم وجود مكيفات أو أجهزة رذاذ لتلطيف الجو
كانت السبب في عودتنا إلى الفندق. بقي أخير الكبير الذي أوصيته بما أوصاني عمي من
كتب. ذهبت بعدها أنا و أخي و أختي إلى الستارز سنتر لأخذ جولة فيه، كنت أرغب ـ و
جعلتهم يرغبون أيضاً ـ في تناول الوافلز مع طبقة فانيليا الآيس كريم و الشوكلت المذابة، بحثنا
و لم نجد. في ذلك الحين لحظت أن عدد النساء في المول يفوق الرجال بنسبة ملحوظة. العجيب
هنا ـ و هو ما لفت أخي الكبير انتباهي له ـ أن لبسهم للحجاب لا يعدو كونه عادة، و هذا و
للأسف الشديد ما ألحظه في هذه الفترة في السعودية و لكن بشكل طفيف، فالبنات هنا
يلبسون الحجاب بشكل جميل و رائع و لا خلاف في ذلك، و لكن بألوان مزركشة، و ما تحت
الحجاب تي شيرتات أو فنائل بأكمام طويلة تجسد تفاصيل جسمها مع جينز سكيني (ماسك)! ما
الغاية من الحجاب إذا؟
مثلهم كمثل المصلي من غير وضوء، فهو متم للأمر بقواعده
متناسياً عن أسياسيات فرضه و حكمه! لا أنكر أيضاً وجود عدد لا بأس به من المتحجبات
المحتشمات اللاتي يبهج النفس منظرهن. أما في الجانب الآخر، الشباب، فأكثر ما لفت نظري
هو عدم انجرافهم خلف القصات الغربية و الغريبة الداخلة على ثقافتنا و مجتمعنا، إلا
الخليجين!
بعد مشاوير المشي داخل المول الكبير ذهبنا لتناول الغداء في فدركرز ـ فودريك على
قولة أخوي الصغير ـ
و من ثم توجهنا إلى الجناح لنخرج سوية مع الأهل لأخذ جولة بالقارب
في نهر النيل و التعرف على المناطق الجميلة في القاهرة. على ظهر القارب، و الذي أخذناه
بسعر فلكي مقارنة بالأسعار المعروضة للمصريين، كانت الأجواء جميلة جداً، فصوت الأمواج
المتلاطمة على وجه و جوانب القارب، و نسيم الهواء الذي يصافح وجهك بنعومة، و رائحة البحر
التي تنعش الروح، كلها كانت سبباً في الاسترخاء و الهدوء. أخذنا بعض الصور التذكارية
حينما حاول أبي مراراً و تكراراً أن يقنع أخي الكبير بأخذ " جاكيته " من السيارة لربما
انخفضت حرارة الجو و احتاج إليه! في حين رفض أخي الكبير بلباقة و أدب عرض أبي. هنا
أقف وقفة تفكر مع محاولة أبي إقناع أخي و امتناع الأخير عن الرضوخ لرأي الأول فأقول: عادة
ما نخوض نقاشات كهذه تحت شعار معرفتنا بما هو أصلح للآخر استناداً لخبرات قديمة لا تعدو
كونها خبراتنا نحن تحت ظل ظروف معينة لا تبنى عليها أحكام أناس يعيشون ظروفاً مختلفة
و أوضاعاً و شخصيات لا تطابق أوضاعنا و شخصياتنا.
لماذا لا ندع مجالاً للآخرين في بناء
تجاربهم الخاصة؟ و إعطائهم الفرصة لزيادة حصيلة الخبرات لديهم؟ هل تصدر هذه النصائح
دوماً من مصدر الاهتمام بالآخرين؟ أم أنها أحياناً ما تنبع من منبع الظهور كالأفهم و الأعلم؟

لا أقصد الموقف السابق فيما أقول!

على متن القارب، و ما بين أكل للمشويات و الفطير المشلتت و صحون الكشري، و الأحاديث
عن مصر مع محمد إن شاء الله انقضت الثلاث ساعات. عدنا بعدها إلى الفندق، و كبرنا
" المخدات " و نمنا!



صور منتقاة:


صورة عمودية للفندق

المكان الذي أغتيل فيه أنور السادات

قبر أنور السادات و الحراس الذين يسيرون حوله لمدة أربع ساعات متواصلة لكل حارس بالمناوبة

معرض الكتاب من الخارج

معرض الكتاب من الداخل
مكتبة المدبولي من الداخل

سيتي ستارز

لقطة شاعرية أخرى

الاستعداد لعيد الحب

بانتظار وجباتنا من فدركرز

أخي يقود المركب

وجبة العشاء

2010/02/14

مصر ( أم الدنيا ) ـ ١

يوم الجمعة الموافق لـ ٢٠١٠/٢/١٢ م


في إجازة الأسبوع وقع اختيارنا لزيارة مصر " أم الدنيا " و التي كانت ضمن قائمة البلدان التي
أتمنى زيارتها، و هي قائمة تطول قليلاً تتضمنها إيطالياً و لبنان و الكويت و غيرها من الدول العربية
و الخليجية و العالمية. حلقنا وجيهنا و كشخنا و تصورنا ثم جددنا جوازاتنا، و من حينها و أنا
أحسب الأيام الباقية للقيا مصر، و صورة تشكلت في ذهني عنها و عن أهلها و نمط العيش فيها.
تمنيت زيارة مصر لأعيش وسط أحياءها الشعبية أتحدث بلهجة خليجية و يتحدثون معي بلهجتهم
المصرية، آكل فيها الشلتوت ( الفطير ) و الطعمية و الكشري و أشرب عصير قصب السكر و أجلس
على الحصير و أتمشى في الريف و أتعرف على الصعيد و طباع أهل الصعيد، و أنظر إلى الحاجة
التي تدفع أهلها لاستلطاف السياح لاستنفاد أموالهم و استحلاب كل ما تجود به " جيوبهم " !.
كان أصدقائي ما بين مؤيد للسفر إلى مصر و معارض؛ أما المؤيدون فكانوا يمتدحون لي نفسية
الشعب المصري الظريف، و أنهم بالرغم من طغيان صفة " الشحاتة " لديهم إلا أنهم أولاً و آخراً "
شعب نكته "
. الذين زاروها و أحبوها أحبوا فيها مناطقها التراثية الأثرية، و اختلاف الثقافات
باختلاف الأماكن المزارة، فهي تحوي كماً هائلاً من المزيج الثقافي الذي يرجع إلى أصلك و حالتك
الاجتماعية و طبقتك في المجتمع و موقعك الجغرافي و ارتباطاتك و معارفك. أما من عارض فكرة
مصر فقد كانوا و بكل بساطة يصفون الشعب المصري بـ ( الشعب اللحوح ) و الذي " يزن " على
رأسك حتى يخرج منك بجنيه أو جنيهين. من وجهة نظري لم تكن تلك السلبية كافية لأن أقنع أهلي
بالعدول عن فكرة زيارة مصر.

في صبيحة يوم الجمعة في الساعة الثالثة و النصف صباحاً كان موعد إقلاع الرحلة، و الجدير
بالذكر أنه دائماً عندما نود السفر إلى أي بلد ـ عربي كان أم غربي ـ فإن الوالد يقوم بإعطائنا موعداً
ضبابياً للرحلة، و عادة ما يكون هذا الموعد قبل الموعد الحقيقي بثلاث ساعات على الأقل. ففي رحلتنا
إلى مصر أخبرنا بأن الرحلة ستكون يوم الخميس، متى ؟ لا ندري ! لذلك قمت بإلغاء موعد الإفطار
مع أصحابي خشية أن تفوتني الرحلة، و التي كانت في حقيقة الأمر بعد موعد الإفطار بثمانية عشرة
ساعة. هذه الآلية في تحديد مواعيد الإنطلاقة تصلح لنوع من الناس، آخرون لا تصلح معهم إطلاقاً
و أنا منهم. و مع ذلك، تأخرنا عن موعد الخروج من المنزل كما توقعت.

على متن الطائرة جلست و على يميني أختي و أخي الصغير، و الممر عن يساري يفصل بيني و بين
أخي الكبير و أختي. كنت أحب الجلوس بمحاذاة النافذة، و لكني أصبحت أفضل الجلوس بين
إخوتي، لا أدري حقيقة لماذا، قد يكون شعوراً بالمسؤولية أو نوع من أنوع الإيثار لمن يصغرني في
العمر بأن يتمتعوا بخوض تجربة جديدة و ذلك في أن يروا حدود بلدتهم تتضاءل أمام أعينهم حتى
تختفي، أكانوا يشعرون بتلك الحرقة على فراقها مثلي أم لا؟ لا أدري.

أحضرت معي في حقيبتي التي حملتها على ظهري عدة كتب و دفتر و أقلام و حلويات، دائما ما
تفيض قريحتي علي بمزيج من المشاعر على متن الطائرة، فلكم كان على متنها من حبيب ساقه
الشوق إلى حبيبته، و من شاب دعاه طلب العلم إلى الابتعاد عن أهله و أحبابه ليكمل مسيرة نجاحه
بعيداً عن عنهم، و مظلوم طلب العدل في بلد غير بلده، و مريض ينشد العلاج في أيدي من لا يملكون
إلا أسباب العلاج. تكاسلت عن إخراج دفتري و توثيق فيض المشاعر التي اجتاحتني في الدقائق
الأولى لانطلاقة الطائرة، أغمضت عيني محاولاً النوم فلم استطع!

أخرجت من حقيبتي TWIX و وضعته داخل جيب المقعد دون علم أختي الصغيرة بذلك، و بعد
دقائق ـ مع مراعاة أن تكون أختي منتبهة لما أفعل ـ أدخلت يدي داخل الجيب و تظاهرت بالتفاجؤ
حينما وجدت الـ تويكس !! و أختي الصغيرة أشد تفاجؤ مني ! ثم أدخلت يدها في جيب المقعد معتقدة
بأنها هدية وضعت من قبل شركة الطيران لجميع الركاب، و حينما لم تجد في جيب مقعدها شيئاً
قالت: [ خلّها، ما يجوز حقت الناس ! ] فتحت التويكس و أنا أسألها إذا كانت تريد الأصبع الآخر
منه أو لا، و هي تتمنع ورعاً. ثم مددت بالأصبع الآخر لأخي الصغير الذي لم يمانع أبداً في أخذه "
و لا ورع و لا هم يحزنون "
. و حينما شارفت على التهام القطعة الأخيرة منه مددتها إلى فمها و
أكلتها و هي تضحك خجلاً من تخليها عن ورعها المزعوم ! ضحكت و قلت لها أني أخرجتها من
شنطتي و أنها " شاطرة " لحكمة تصرفها. نامت الطائرة، أقصد من في الطائرة، و لم يبق إلى
أخي الكبير و أنا و بعض المتهامسين و صراخ طفلة على يميننا أزعجت رومانسية اللحظة ! كنت
أقرأ في كتابي و أخي يقرأ في كتابه و في كل لحظة أنقل له تعليقي على ما قرأت أو ما يجول في
خاطري. بعد ذلك تناولنا وجبة الإفطار ثم ارتحنا قليلاً حتى الوصول.

كان مطار القاهرة بالنسبة لي مفاجئة كبيرة! فهو يمثل تطوراً لم أتوقعه في العمران. فهو أجمل
بكثير من مطار الملك خالد بالرياض، و يشابه في تصميمه تصاميم المطارات الخارجية و في
تخطيطه. لم تكن حركة السير في الجوازات بطيئة و لا سريعة. و لأنني كنت شديد الحماسة لزيارة
مصر قمت بالبحث عن الأماكن السياحية فيها و طبعت عدة أوراق للأماكن التي ينصح بزيارتها مع
عدد من النصائح التي يستحسن اتباعها في مصر، من ضمن تلك النصائح ألا تعطي أحداً مبلغ
استلطاف أو خدمة. و بسبب انشغالي في تجهيز شنطتي لم أقرأ تلك الأوراق. لذلك حينما كان هناك
مسؤول يشرف على " العفش " جاء و تأكد من من مطابقة أرقام الأمتعة ثم قال لي : [ ما تديني
ورأة أمشي حالي فيها ]
فأشرت عليه أن يتوجه بطلب أبي الذي استغرب مني كوني أنا من طبعت
تلك الأوراق !.

استقبلنا السائق الذي تعاقد معه الوالد ليكون مرشداً سياحياً لنا و مسؤولاً عن تنقلاتنا في سيارته
الهونداي فان. سألناه عن اسمه فقال: [ محمد إن شاء الله ] ! كادت الفرحة أن تقتلني، فالآن
أشعر أني أعيش في إحدى الأفلام المصرية، ينقصنا مشرف الإضاءة و المصورون و المخرج. في
طريقنا إلى الفندق كانت مصر أكثر تحضراً مما توقعت. و بطبيعة الحال، لا بد أن تكون كذلك لأنها
الطريق إلى أرقى الأحياء فيها. و لو علم المصريون بحقيقة حبي لبلدتهم لوضع المطار في قلب الريف
بين الحقول و المزارع و الأبقار و الجبن الطازج و الألبان و الشعير و الصحن الكبير و الفول و
البشرة التي حرقتها الشمس و الابتسامة التي لا تعرف معنى للتصنع و صوت العصافير و حداء
المآذن و حبل الغسيل و ألواح الخبز المحمول و أكواب الشاي الأسواد و لهجة الصعيد و بساطة
العيش و طيبة النفوس و التمام القلوب.

في فندق الانتركونتينيتال سيتي ستار انتظرنا في البهو حتى يتم الانتهاء من تجهيز جناحنا. و
بسبب التأخير قاموا بإعطائنا غرفة مؤقتة نرتاح فيها حتى يجهز الجناح. توجهنا إليها بين المسابح
الملتوية كالأفاعي و صالات الرياضة عن يميننا و الشاليهات عن يسارنا. و التصميم الأمريكي للفندق
و اللمسات المصرية الجلية عليه. صلينا الفجر ثم نام الجميع و خرجت أنا لزيارة المركز التجاري
المجاور للفندق، ستارز سنتر. يتكون هذا المركز التجاري من ٧ طوابق كما حسبتها أنا. و هو كبير
جداً إلى درجة أنك تحتاج إلى من يرشدك لطريق العودة للفندق مرة أخرى، تجد فيه كل شيء، من
مطاعم و محلات و صالات سينما و أسواق و غيرها.

أكثر ما شد انتباهي هو العمالة المصرية في البلد. فبسبب الحاجة و قلة مصادر الدخل و نظام
الاقتصاد في البلدة توجب على أهلها العمل في كل مجال يمكنهم العمل فيه، فكانت العمالة المصرية
في ذلك المركز التجاري و في الفندق أيضاً تشكل ٩٩٪. كان شعوراً جميلاً أن يقوم أبناء البلد
بالعمل على خدمته. كم أتمنى أن تصبح المملكة يوماً هكذا بعيدة كل البعد عن دوافع الحاجة و قريبة
كل القرب عن حب الوطن و المشاركة في بنائه و خدمته. علماً بأن الطريقة هذه هي إحدى أسباب
النشاط الاقتصادي في دول متعددة و ارتفاع مسنوب دخلها و سبباً في التقليل من الأموال الخارجة إلى
الدول المختلفة و هي إحدى الطرق التي نهضت بها اليابان و غيرها.

لم يكن الشعب المصري " نكته " بالدرجة التي أتوقعها! في السعودية هناك من هو " أنكت " منهم!
تجولت في المركز التجاري و شريت لي فطور حيث كانت أسعارهم أغلى بقليل من أسعارنا. بطبيعة
الحال لكونه محلاً داخل أضخم مركز تجاري في القاهري و مستقطباً للسياح فلا بد من اختلاف
الأسعار. عدت بعدها إلى جناحنا بعد تجهيزه، صلينا الظهر و العصر ثم نمنا.

على أذان المغرب استيقضنا و أدينا صلاتي المغرب و العشاء ثم توجهنا إلى خان الخليلي، حيث
قصدنا قهوة الفيشاوي التي ما برح الوالد يقلل من عظمتها في نفسي و يخبرني بأنها ليست كما
أتوقع! و في كل مرة أخبره بأني قد شاهدتها على جوال ابن عمي صوراً و مقاطع فيديوية. و حينما
وصلنا مررنا بجانب مسجد الحسين و الذي يقال أن رأس الحسين فيه و مسجد الأزهر القريب منه و
هي منطقة الحسين في وسط القاهرة و من أمامه ساحة المقاهي و التي يوجد فيها قهوة الفيشاوي و
مقهى نجيب محفوظ و غيره. عند وقوفنا أمام قهوة الفيشاوي التفت علي أبي و قال: [ ما توقعتها زي
كذا، صح ؟ ]
فقلت له: [ شفتها قبل بجوال ولد عمي ! الا توقعتها كذا ] فاستغرب و كأني أخبره
للمرة الأولى أني رأيتها من قبل. جلسنا حول طاولة من الطراز المصري تناولنا فيها الشاي و الحب
المصري، و بعض أنواع العصائر التي لم تعجبنا. كانت جلسة جميلة و غالية جداً في نفس الوقت!

عدنا بعد ذلك إلى الفندق، و ذهبت مع أخواني إلى المركز التجاري حيث حضرنا أحد الأفلام في
صالة السينما ثم نمنا. و بذلك انتهى يومنا الأول في القاهرة.


صور منتقاة


في مطار الرياض

مطار القاهرة

إحدى الممرات في المطار

أختي الصغيرة تنتظر

صورة أخرى للمطار في ممر الأمتعة

المطار من الخارج، للمعلومية لم يتم سنة على إنشائه و لم ينتهوا منه بعد

القاهرة في الصباح

السواق محمد إن شاء الله !

ستارز سينتر المحاذي للفندق

الأمتعة أمام الفندق

صورة لبهو الفندق

لقطة شاعرية

لقطة مش شاعرية

ستارز سنتر من الداخل، و يلاحظ كبر حجمه

تشيليز الذي تناولنا فيه وجبة عشاء يومنا الأول

مسجد الحسين في منطقة الحسين

إحدى الأزقة داخل السوق الشعبي في منطقة الحسين

محدثكم

قهوة الشيخ شعبان، تأسست عام ١٩١٩ م

قهوة الفيشاوي و التي كانت قهوة الأدباء قديماً

مدري مجملها الحنا و الا هي زادته حلا ؟!

جلسة قهوة قبل الفيلم مع أخواني الساعة ١١ و نص مساء