2009/08/02

في فانكوفر .. ٣


فور وصولي إلي مطار فانكوفر، توجهت إلى صالة الاستقبال، ألتفت يمنة و يسرة لأتمكن من
رؤية جميع معالم هذا المطار. لم يكن بجمال مطار سنغافورا، أو مطار هيثرو، لندن، و لكنه
بالطبع كان أجمل بكثير من مطاراتنا.

بعد سؤال عدة أشخاص تواجدوا كموجهين و استعلامات تمكنت من إيجاد المشرفة على طلبة المعهد.
سرنا معها نحن الأربعة، سعودي و برازيلي و مكسيكي و أمريكي، و السؤال الذي حيرني [ وش
جاب الأمريكي يدرس انقليزي !! ].
ركبنا " ميني باص " و توجه بنا إلى سكننا العائلي. قام بإيصال البرازيلي، الذي كان أكثرنا
جرأة و اندماجاً مع السائق. حيث دارت بينهم محادثات مختلفة عن هوية السائق، ثم الكلام عن
المنتخب البرازيلي، و أخيراً الحديث عن فانكوفر و مدة الإقامة فيها. كنت كمستمع أتلذلذ بالـ " آكسنت "
المميز الذي يتمتع به الناطق باللغة البرتغالية، حقيقة و قبل مجيئي إلى فانكوفر كنت قد بنيت في
مخيلتي عدة تصورات عن شعوب دول العالم. تصورات كان أساسها قواعد مما أرى على شاشة
التلفاز. فمثلاً، كنت أعتقد أن الشعب المكسيكي هو شعب يرتدي القبعة الكبيرة المستيرة و بيده قيتار
و يعيشون في صحراء تدور فيها أكوام من القش !. و بعد مجيئي، الغالبية العظمى من أصدقائي
من المكسيك ! أحببت المكسيك.

لم يبق سواي أنا و المكسيكي في " الميني ". أوصل المكسيكي قبلي، و حين خروجه إلتفت إلي
و قال : [ أديوس ]. كنت واضعاً " الهيد فونز " فلم أستطع تمييز ما يقول. خلعتها و قلت:
[ سوري ؟! ]. قال: [ أديوس ]. اكتفيت برسم علامة تعجب على محياي. كأنه أراد تدارك الموقف
و قال: [ where are you from ? ]. أجبت: [ From Saudi Arabia ]. ابتسم و اعتذر
ثم ذهب.

كلما قام السائق بإيصال أحد الطلبة كنت أنظر إلى كل عائلة كيف تستقبل طالبها، و أتساءل
بيني و بين نفسي: هل عائلتي الجديدة ستتكون من زوج و زوجة ؟ أم مجرد رجل فقط ؟ فقد
أخبرني المعهد مسبقاً بأن العاذلة في كندا لا تعني مطلقاً وجود زوج و زوجة و أبناء. فربما تكون
كذلك، و ربما زوج و زوجة فقط. أو رجل لوحده.
كم عدد الطلاب الذي سأسكن معهم ؟ و من أي البلدان يجيئون ؟ أسئلة كثيرة كان الشوق
يسبقني إليها.

كان منزلي هو النقطة الأبعد عن المعهد مقارنة ببقية الطلاب معي. وصلت إلى منزلي و اتجهت
إلى الباب الأمامي مع السائق. وجدنا ورقة كتب عليها [ نعتذر لعدم تواجدنا الآن في المنزل،
لقد قمنا بالخروج إلى البحر، الرجاء من الطالب الجديد التوجه إلى الباب الخلفي و سيقوم أحد
الطلبة بفتح الباب له. إذا واجهتم أي مشاكل قوموا بالتواصل معنا على الرقم المدرج ].

حقيقة، لم يكن استقبالاً حاراً كما تخيلته. لم يكن إستقبالاً من الأساس !
توجهنا إلى الباب الخلفي. طرقت الباب. و هنا حصلت المفاجأة ! كان في استقبالي طالب سعودي.
[ اكتملت ! ] قلتها في عقلي. قال: [ ارحب ! السلام عليكم ] و مد يده تجاهي. من غير إدراك مني
قلت: [ Hello ] و مددت ذراعي. أقسم أني لم أكن أعي ما أقول من شدة صدمت الموقف !
تخيلتني أعيش مع عائلة كندية، يسكن معي طلبة مختلفين من بقاع مختلفة من العالم، غير السعودية !.
و لكن حدث ما لم يكن بالحسبان.

اعتذرت له و قمت برد السلام. ودعني السائق الكندي، من أصل أسترالي، ثم ذهب. دخلت مع
محمد، الطالب السعودي، إلى المنزل حيث أخذني في جولة حول المنزل. أخبرني بأن تلك الغرفة
هي غرفتي. كان موقعها رائع. أمام المطبخ مباشرة و بجوار مخزن الأحذية، و هي أقرب غرفة للباب الخارجي.
كما أن غرفتي هي أكبر غرفة في المنزل، و لديها نافذة تطل على الحديقة، و الأخرى على بيت الجيران.
" يعني أنواع القزقزة ! << سعودي ".

بشورته الأحمر و فنيلته البيضاء " المسفطة " و خطوط النوم مرسومة على وجهه اعتذر مني محمد قائلاً:
[ المعذرة، بس أنا ما أسكن معك هنا ... ] هنا انفجرت أساريري طرباً [ ... بس ثنين من
عيال عمي هم اللي ساكنين معك، حسين و أحمد ] هنا ماتت تلك الأسارير.

حتى المساء لم ألتق بالعائلة. مع أني لم أقم بغلق بابي حتى أتمكن من مقابلتهم. فور دخولي
إلي غرفتي قمت بخلع ملابسي و أخذت " دشاً " سريعاً و صليت الظهر و العصر جمعاً و قصراً،
بعد أن قمت بسؤال محمد عن القبلة التي كانت بالنهاية خطاء !

في المساء خرجت إلى المطبخ لأجد ثلاثة أطباق من المكرونة و اللحم المفروم. بذكائي المتدفق،
استنتج أن الأطباق لي أنا و أحمد و حسين. لا أعلم من أين أتت و أين ذهب من أتى بها، ولكنها
أتت.

أخذت طبقي و ذهبت إلى الثلاجة لأبحث عن عصير يساعدني على " الزرط ". كتب على الثلاجة
[ الرجاء مساعدتنا على التنظيف. كل طالب يقوم بغسل أطباقه بعد الأكل. و من يريد تناول وجبته
خارج المنزل، نرجو أن يكون لدينا خبر مسبق بذلك حتى لا نقوم بإعداد وجبته. أيضاً، قم بترتيب
غرفتك، خاصة في أيام الويك إند. نتمنى لكم إقامة ممتعة معنا. آلفيس ]

فتحت الثلاجة. وجدت ثلاثة علب من عصير التفاح، و ثلاثة من المنجا. “ على فكرة، أحس كلمة منجا
تجيب لي المر ! ”. بيت لا يوجد فيه عصير برتقال ؟؟!

كان عصير التفاح أقرب إلى ذاذقتي من عصير " المنجا ". أخذت الطبق و العصير و عدت إلى
غرفتي لأتابع مسلسلي.

بدون أن أشعر، نمت حتي أذان المغرب. أذان المغرب هنا في الساعة التاسعة مساء. بعد دقائق
من " التمغط " سمعت " طقطقة " في المطبخ. غير آبه بوجه المتنفخ من آثار النوم، خرجت للقاء
العائلة. كان أحمد و حسين يغسلان الصحون.

[ ارحب ! المعذرة، أزعجناك ؟ ] قال حسين، الذي يبلغ من العمر ١٨ سنة غير أنه يبدو أكبر من
ذلك بكثير شكلاً و أسلوباً. التفت إلي أحمد و قال: [ أهلاً أهلاً، حي الله السعودي و يا هلا بريحة
الحبايب ! ]. بعد أيام من التعارف صدمت بعمر حسين، ٢٧ سنة لم تكن ظاهرة على فكره أو
شكله.


توجهنا إلى صالة المنزل. جلسنا حول التلفاز نتحدث و نتسامر. [ وين العايلة ؟ كل ذا بحر ! ]
سألتهم. قال حسين: [ موجودين فوق ! ].

قاموا بإيضاح الصورة التي لم تكتمل في رأسي. فالغرف الموجودة في الدور الذي كنت فيه
لا تكفي لثلاثة طلبة مع العائلة !. سألتهم: [ و الحين كيف نحتك فيهم و نسولف معهم و نطور لغتنا ؟ ]
[ والله شف يا طويل العمر، هم كل يوم ينزلون و يحطون العشاء لنا. طبعاً فيه كورن فليكس
و فيه توست و جبن و كلش عندنا إذا تبي تسوي لك فطور. و إذا نزلوا تقدر تحتك فيهم. و أحياناً
يجلسون معنا و يسولفون ] كان أحمد يتحدث بينما حسين منشغل في أكل رقائق " التشيبس "
و مشاهدة التلفاز بابتسامة غريبة على محياه.

قبل ذهابنا للنوم، نزل إلينا آلفيس، شاب ثلاثيني من العمر من البوسنة و الهيرسك. قام بالترحيب
بي، ثم سلك الحديث مسلكه تجاه كندا و عن الأماكن التي يستحسن على زيارتها. أنهينا الحديث
و توجه كل منا إلى فراشه.

لم تكن الوقائع تصل إلي حد التطلعات. و لكنها أفضل من لا شيء !


صور مختارة ( اضغط على الصورة للتكبير )




صورة غرفتي، سريرين.


المنظر الذي أطل عليه من الغرفة.

هناك تعليقان (2):

  1. هكذا الحياة مليئة بالمفاجاءت .. ولمشاعرنا دور في تصنف ما نواجهه في حياتنا .. وتخيلاتنا المسبقة لها دور كبير في تقييم الموقف.. فنحن قد نبني صورة جميلة زاهية عن مستقبلنا ثم وإذا الأيام تمر سريعا ونكتشف أن ما نسجناه في مخيلتنا لم يكن سوى طيف ووهم .. فالواقع يفرض صورته المباينة لحلمنا الجميل.
    لمن اللوم ! هل نلوم أحلامنا وتطلعاتنا أم نلوم الآخرين الذين لم يحققوا لنا ما نريد؟
    لماذا نحن نندفع لنرسم صورة جميلة عن قادم الأيام؟
    ما الذي يجعلنا نعيش مع أحلامنا وأماننا ونغفل عن ما كُتب لنا ؟ ..
    أسئلة كثيرة تدور في الذهن عن تشوف المستقبل والحلم الجميل وترجمته لواقع معاش ..
    وكم هو رائع أن يتطلع الواحد للمستقبل .. ولكن الأروع أن لا يدع الآخرين يرسمون هذا المستقبل.
    كم هو رائع أن نسير للأمام بحلم جميل .. ولكن الأروع أن نملك رؤية واضحة عن مسيرنا وحلمنا.
    ونحن أحيانا نتفاجأ بما نواجهه في طريقنا من أحداث ومواقف وذلك لأننا لم نوسع دائرة المستقبل لتتسع للأحداث الجانبية .. لم ندع مجالاً للاحتمالات غير المرغوبة .. نحن نؤطر صورة المستقبل بإطار ضيق لا يتسع لأي حدث جانبي .. عند تداخل صور جانبية لا نريدها يتمزق الإطار الذي رسمناه ويذبل الحلم الذي عشناه.
    الحياة ليست صورة واحدة نرسمها بأناملنا فهناك من يرسم لنا المستقبل .. علينا أن لا نغيب عن أذهاننا أن هناك إرادة أخرى أكبر من إرادتنا لها اختيار .. وهذه من الغيبيات التي لا نكشفها إلا بعد وقوعها .. ولكن يضل حديثنا عن مساحة اختياراتنا عن إرادتنا عن عزائمنا .. هل نقف ونترك أحلامنا ونتجاوز عن تطلعاتنا عندما نواجه ما يخالف ويغاير ما نريد؟ أم ندفع القدر بقدر مثله ؟ هل نجبر الآخرين ونجبر إرادتنا على تحقيق ما نطلع إليه؟ .. هنا يظهر التمايز بين البشر في الاستسلام للقدر أو المدافعة .. ومن فهم طبيعة الحياة واكتشف السنن علم أن الحياة مبنية على المدافعة والمجاهدة .. وأن أصحاب الهمم العالية لا يقفون عند تشكيلات الواقع بل يقفزون الحدود ويتجاوزن الخطوط حتى يصلوا إلى مرادهم .. لا تدع الآخرين يحطمون آمالك؛ بل لا تدع نفسك تحطم نفسك .. فنحن كثيراً ما نعاتب الآخرين وننسى أننا كثيراً ما ندمر ذواتنا أكثر من غيرنا .. فنحن لو احترمنا إرادتنا لأحترم الآخرين ما نريد .. تحية طيبة أبعثها لك مع نسيم هذا اليوم الجميل الغائم لعلها تصل إليك فتبعث في أساريرك معاني لم يستطع بياني أن يبعثها .. فحباً وتقديراً أبعثها لك مع هذه العبارات التي هي صدى لعباراتك الرائعة .. أبورغد

    ردحذف
  2. They say " Those who can, do. And those who can't, talk "

    هل تعتقد يبو رغد ان أحلامنا أكبر من الواقع ؟
    و الا تكاسلنا و تخاذلنا عن التمسك بهالأحلام فرض علينا واقع غير مرغوب ؟

    ردحذف

أشكر لك اهتمامك و تعليقك