2009/08/16

في فانكوفر .. ٨

الأسبوع الثالث، بعد سفر دينيس، كان أسبوعاً كئيباً بعض الشي. فقد تعودت الخوض في نقاشات
طويلة مع دينيس حول المذاهب و الثقافات و الفكر و أمور مختلفة. و لأني أحب الأدب العربي كثيراً.
فكرت في خوض تجربة شعرية جديدة في الأدب الغربي. صادف أن دينيس لها تجارب في هذا المجال.
نصحتني بالقراءة لعدد من الكتاب و أرتني بعض قصائدها. أعلم جيداً أن ذائقيتي صعبة الإرضاء لذلك
لم تصل قصائدها إلى المستوى المأمول. أخبرتها بأنها جميلة و لكنها تحتاج إلى كثير من الإمعان. أؤمن
أن روعة الأدب، شعراً كان أم نثراً، لا بد أن ينعكس من جراء إلهام لا خيال ! و قد يكون هذا الإلهام
قصة حقيقية عاشها الأديب أو سمع بها، أو حتى مشاعر مضطربة تشكلت إثر عوامل مختلفة مكنته من
إنتاج ما ينتج من أدب.

قبل أن تودعنا دينيس قمنا بأخذ صورة جماعية. ثم دارت بيننا ورقة قام الجميع بكتابة إيميلاتهم فيها.
كنت متحوجاً جداً من وضع بريدي الإلكتروني. ذلك أني لا أقوم بإضافة البنات أبداً لشعوري بأنه باب
يستطيع الشيطان الدخول على منه. و بصراحة، فأنا لن أرضى أن تضيف زوجتي أحداً كصديق في
إيميلها. و ما لا أرضاه لها لن أرضاه لنفسي كأقل تقدير. اعتذرت منها و بينت لها الأسباب التي تفهمتها.

بولينا و توني كانا الأقربين لي. حيث كنا نحن الأربعة، مع دينيس، نخرج سوية. كان الأسبوع الثالث هو
الأسبوع الأخير. أعتذر لكم أيها الأطباء، و لكن التدريس مهنة أصعب بكثير من مهنكم ! يتجوب على
المدرس أن يمتلك قلباً قوياً شجاعاً أشجع من قلوبكم قبل إجراء عمليات التدريس. في نهاية كل سنة، و
في حالتي هذه كل أسبوع، يقوم المدرسون بتوديع طلاب قضوا معهم أياماً لا تنسى و مواقف لن تمحى
من ذاكرة الأيام. أخذوا معهم جزء من عمرهم، و كثيراً جداً من حبهم. الوداع صعب، ينتابني ألم ليس
بهين مع كل كف لوّاحة بالوداع. مع كل حقيبة تملؤ بالذكريات قبل الملابس للرحيل. مع كل صوت يؤذن
بالرحيل يعتصر قلبي ألماً و وجعاً. أعلم أن مدة الثلاثة أسابيع في رصيد العمر لا تذكر. و لكن رابطة
الصداقة التي ربطتني بالثلاثة كانت رابطة مختلفة. في دولة لا أعرف فيها سواهم تمسكت بهم أشد
التمسك. و إذا بهم صوب مرفئ الرحيل يسيرون.

في بداية كل شهر توضع قائمة الأنشطة الخارجية في المعهد. تعجبني كثيراً و أقوم دوماً بقراءتها و
تحديد الأيام التي أرغب الاشتراك في أنشطتها. كان يوم الثلاثاء هو يوم الـ PaintBall. و من لا يعرف
هذه اللعبة فهي تقوم على حيازتك على سلاح مذخر بطلقات من الألوان. تلبس لباساً يواري كل جسمك
و يحمي ملابسك من أن تلطخ بالألوان. الطلقات جداً مؤلمة بالرغم من اللباس الذي يوفر لنا ! بدأت اللعبة
و انقسمنا إلى مجموعتين. مجموعة تدافع عن الكنز و مجموعة تهاجم. في غابة صغيرة كانت إحداثيات
اللعبة. أي شخص يصاب بطلقة يخرج خارج اللعبة. كنت أعتقد أني من المهاجمين على الكنز فبدأت
أهاجم لإحساسي بأن الجميع متخوف من الطلقات بما أنها اللعبة الأولى. أشار على المدرب بالعودة إلى
موقعي الدفاعي لأنهم يمنع تجاوز الخط المخصص للمدافعين ! كنت مختبئاً خلف حاجز يمنع المهاجمين
من إصابتي. و فور إشارة المدرب وقفت لأعود لمركزي. حينها أصابني أحدهم في رقبتي. نلبس أقنعة
تحمي أعيننا و آذاننا، و لباساً كلباس العاملين في مزارع النحل يغطي أجسادنا. الجزء الواحد الطاهر
هو مكان الرقبة، و فيه أصبت ! كانت في عمودي الفقري مباشرة. لم أشعر بألم وقتها و لكني رفعت
يدي لأستأذن بالخروج. بعد خروجي بخمس دقائق بدأ الألم يشتد. و حينما خرج صديقي ألقى نظرة على
رقبتي ثم شهق ! علمت أن " الوضع مش كويس ". في التحدي التالي اختبأت خلف أقرب " كفر ".
و قبل انتهاء اللعبة ركضت إلى المنتصف أطلق يميناً و يساراً [ حرام تروح الطلقات من غير ما أطلقها ! ]

كانت تجربة جديدة و جميلة. أصيب صديقي في ظهره باثنا عشرة طلقة بقى أثرها مدة يومان. أما إصابتي
فما زال أثرها واضح حتى بعد أربعة أسابيع.

تعرفت على مجموعة من الطلاب السعوديين الذين ازدادت علاقتي معهم مع مرور الأيام. و في يوم
الجمعة لم أذهب للمدرسة حيث كان اليوم الأخير لتوني و بولينا في كندا. قمنا ذلك اليوم بزيارة الحديقة
القريبة من منزلنا. ثم عادوا إلى منزلي لمشاهدة أحد الأفلام. و أخيراً، ذهبنا إلى " كوفي شوب " قريب.
ثم توادعنا. كان يوماً هادئاً جميلاً. و كان عهدي الأخير بهم.

في فانكوفر. يجيء أناس و يذهب آخرون. و يبقى البعض منا يستقبل هذا و يودع ذاك. نتعلم من ثقافتنا
المختلفة أكثر مما نتعلم من اللغة الإنجليزية، الهدف الرئيسي الذي جا من أجله غالبيتنا.

في تلك الثلاثة الأسابيع الأولى أدركت في قاعدة قد تكون شبه عامة أن البرازيلين هم أطيب الناس من
ناحية الذكور. و أن المكسيكيات هن أسهلهن معاملة و أيسرهن تعامل. يعتقد الكثير من أبناء الدول
الأخرى أن الشعب السعودي يرقد على حقول النفط. و يعتقد آخرون أن كلمة SAUDI لا بد من أن لها
مرادف يعني الثراء الفاحش ! نعم، كل واحد منا يمتلك سيارته الخاصة. و كلنا نسكن في بيوت نمتلكها.
و لكنه شيء طبيعي جداً. فلا يذهب للدراسة في الخارج إلا من يمتلك القدرة المالية التي تعينه على تكاليف
مثلها سفرات. إلا الطلبة المبتعثين وزارياً فهم في شأن مختلف.

كنت أخشى من أفكار تلبسها فكري أمناً طويلاً وجدت أن ليس لها أصلاً من الصحة في الواقع. أخوض
الحديث فيها معكم في لقائي القادم.



صور مختارة (اضغط على الصورة لتكبيرها)


في طريقي للحديقة مع أصدقائي


الحديقة


منظر من الحديقة على الخارج


توني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أشكر لك اهتمامك و تعليقك