2009/08/29

في فانكوفر .. ١١

أصبحت هذه السلسلة متعبة جداً. أرهقني ترتيبها و صياغتها كثيراً. مللتها كمللي من البقاء
هنا في أرض لا قريب لي فيها و لا حبيب. في الأيام القلائل القادمة أكمل أسبوعي الثامن و
الأخير. هنا، حيث المشاعر المتصنعة مرتسمة على كل محيى. هنا، حيث الشعور " الملخبط " و
الأحاسيس المبعثرة و الفوضوية التي لا تنتهي. كثيراً ما أخبر أمي أني أتمنى السفر إلى الخارج
لأطلع على ثقافات الشعوب المختلفة. و ما أن ترتفع الطائرة في السماء و أرى نقاط الضوء تبتعد
عني، أرى مدينتي الحبيبة تتلاشى خلف ركام السحاب، ما إن يحدث ذلك حتى أتحشرج في
مكاني شوقاً لها. شوقاً لحضنها الدافئ. شوقاً لشوارعها التي تختزن ذكريات الشغب و ملامح
الطيش. أشتاق رغم شهور الألم و معاناة السنين التي عاصرتها حتى اعتصرتني فيها. إلى هنا
أتوقف في سرد مشاعري عن حبيبتي – مدينتي – و أعود معكم لنهاية رحلتي مع هذه السلسلة.


أسبوعي السادس كان أسبوعاً " ثقيل طينه " ـ أعتقد أن الأسابيع كلها ثقال طينه منذ الأسبوع
الثاني ! ـ بسبب رحيل أحمد. أحمد هو زميلي من أصول يمنية. ذكرت هذه النقطة، الأصل،
لأتحدث عن أحبابي اليمنيين. حقيقة الأمر أني حتى هذا اليوم لم أجد سعودياً من أصول يمنية
إلا و كانت مكانته عظيمة في قلبي. لم تتجاوز معرفتي بأحد الأسبوع. أقصد بذلك الأيام التي
التقيت أحمد فيها و ليست منذ بداية معرفتي فيه، لأني عرفته من الأسبوع الثاني تقريباً. كان
نعم الزميل و الرفيق. مبتسم دائماً، واثق من نفسه و من لغته الإنجليزية رغم ركاكتها إلا أنه
أجرأ مني في الحديث بها. يخلط كثيراً بين مصطلحات سعودية عامية و يقولها بالإنجليزية.
صادق في تعابير وجهه. و مجاملاته مكشوفة دوماً ! كريم و لطيف و عاطفي جداً. و للحديث عن
هذه النقطة مكان في السطور القادمة.

بولينا كانت نقطة التقائي بأحمد. حيث كانت تسكن معه في بيت نفس العائلة. و هما يسكنان في
بداية شارعي تقاطع Fraser مع الشارع الـ 12 و أنا مع الـ 61. زرت بولينا في ليلة من الليالي
على اتفاق مني أنا و توني لتوديعها، لم يحضر توني. حين وصلت سألتني لو كان بإمكانها مناداة
أحمد لمجالستنا و قضاء السهرة معاً. رحبت بالفكرة على امتعاض لأني لم أكن متحمساً لمعرفة
المزيد من السعوديين. كانت تقول لي أنه لا يخرج من البيت أبداً و لا يحضر إلى المدرسة. أشفقت
على وضعه و لكني لم ألمه في ذلك حينما علمت أنه قضى ثمانية أشهر هنا من دون أي زيارة
لأهله خلالها ! في أول لقاء لي معه لم نتوقف عن الحديث أبداً و كأننا أصدقاء نعرف بعضنا منذ
زمن ! كان حديثاً غير متكلفاً من ناحيته و قليل الحذر من ناحيتي. أعجبت بشخصه و بساطته و
تواضعه، و تعجبت كثيراً حينما علمت قبل سفره بساعات في حديث عابر بيني و بينه أنه ينتمي
إلى أسرة غنية جداً. لم يظهر ذلك في أسلوبه و لا في كلامه و لا في أي شيء. كان يعتمد كثيراً
علي في شراء كل شيء، بدء بالأحذية و انتهاء بوجبات المطاعم. يثق بذوقي كثيراً، أحببته لذلك.

في الليالى الثلاث الأخيرة قبل سفره كان يسمر هو و عزيز عندي لمشاهدة إحدى أفلام
الآكشن التي لدي. لا يحب إلا الآكشن ! ثم انتهى به المطاف أن اشترى وصلة لينقل جميع
الأفلام لديه. في اليوم الأخير له في الأسبوع السادس لي ذهبنا في جولة على بعض شوارع
المدينة. تعرفت فيها على زميل سعودي جديد اسمه حسام. بعد تلك الرحلة عدنا لمشاهدة بعض
الأفلام في غرفته و عاد حسام إلى منزله. عزيز، و الذي يسكن مع أحمد، ذهب للنوم في غرفته.
قضيت أنا و أحمد ليلة وداعية جميلة كان يتحدث لي عن اشتياقه الكبير لأهله و أنا أكتب بإحدى
أقلامه على منديل و أنا أتخيل كلامه. غرفته الخضراء الصغيرة و بعض صناديق و شنطة، و
ميران يستخدمه لوزن العفش " وقفنا فوقه نشوف وزننا سوى كم ". قبل الفجر خرجت من منزله
على اتفاق منا أن يزورني قبل ساعات من رحلته و أن يكون تواصلنا عن طريق الماسنجر. عدت
لأودعه، حيث لا يمكننا الجزم بما سيحدث. و هل سيتمكن من المجيء أم لا ؟ و لكنه رفض قائلاً:
[ المعذرة يا فراس، بس ما أحب أودع أحد. ] تقول لي بولينا أنها لم تره في اليوم الذي سافرت
فيه و كانت تخشى أنه غاضب عليها لسبب تجهله، و لكن الحقيقة أنه لا يستطيع مواجهة لحظات
الوداع لرقة قلبه. كنت أسأله عن أجمل الأغاني بالنسبة له. و كان يتنهد كثيراً قبل الإجابة.
أستطيع الشعور بتلك العبرة المتعلقة في رأس حنجرة و هو يقول [ فراس شكلك تبينا نقلبها
صياح ؟ ] ثم يضحك. أخبرته عن قصيدة بكى لها جدي كثيراً و ما زال يبكي لسماعها حيث أنها
تحكي عن الشيب في كلمات رائعة على ألحان جنوبية مطلعها يقول:

الشيب شفته في المرايا و صديت *** ما كنت أصدق إن ذا الشيب فيّه !

حزن كثيراً على جدي و أخبرني أنه لا يلومه أبداً. أعتقد أنه أكثر الأشخاص الذين قابلتهم
في حياتي عاطفية !. سافر أحمد ولم يزرني. سافر و هو يحمل معه قدراً كبيراً من محبتي و
سعادتي.


في الأسبوع السابع غبت في أيامه أكثر مما حضرت لملل تملكني. في إحدى الأيام التي حضرت
فيها ذهبنا لزيارة جامعة الـ UBC و هي اختصار لـ University British Colombia.
استطعت معرفة سبب تفوقهم علمياً علينا. لم يهتموا بالمادة المطروحة فقط، بل قدموا كل الباقة
التي تعين الطالب على فهمها. بالإضافة إلى سبل الترفيه المتوفرة لإعادة شحن طاقة العلم مرة
أخرى. لأول مرة أرى جامعة توفر دار سينما لطلابها ! و محلات، و متاحف، و مسابح، و
صالات انترنت، و مقاهي، و حدائق تبهر الناظرين !


دخل رمضان علينا في الأسبوع الثامن، و كان يوم السبت هو أول أيام صيامنا. قبل ذلك كله
رسمت في ذهني مخططاً للتجهز لرمضان. قبل صلاة الجمعة قلت في نفسي أننا سنذهب
لتناول وجبة الغداء، ثم اللعب في ملعب الجمعة كالعادة. بعد ذلك نتوجه لشراء " أغراض "
رمضان من فيمتو و رقاق سمبوسة و لقمة القاضي. ثم نتفق على مكان نصلي فيه العشاء
و التراويح و لا مانع لو كانت غرفتي. أخبرنا الخطيب بعد صلاة الجمعة أنه سيكون هناك
إفطار صائم في مصلى الـ Downtown الذي لأول مرة أعلم عنه. و ستقاوم صلاة التراويح
فيه أيضاً. كان خبراً رائعاً قررت حينها أن أكون أحد المتبرعين في خدمة الصائمين. شعور
جميل، جد جميل، حينما تكون أنت في وجه هذا العمل الخيري تقدم الطعام لصفوف الصوام
و ابتساماتهم تكون بطاقة شكرك التي لا تقدر بثمن ! تعرفت في ذلك المصلى على مجموعة خيرة
من الناس. أثبتت الجموع أن الخير لا يتمثل في لحية و ثوب قصير. و إنما الخير هو خصلة
موطنها قلب صادق مسلم. روح المحبة و التآلف التي جمعتنا كانت كفيلة بربطنا في ذلك المكان.
مصلى، يملكه أفغاني تبرع به لنا و تبرع بإفطار الخمسة أيام الأول من رمضان و الذي يكلف
كل يوم فيه حدود السبعمائة دولار، يتسع لمئتي طالب. و سجادات مفروشة بطريقة جميلة. تمور
تبعث لنا من السعودية من أهالى الطلبة و أقاربهم و فاعلي خير. و شوربة، و سمبوسة جبنة و
لحم و خضار، و رز و دجاج، و فواكه، و سلطات، و عصيرات، و قهوة، و شاهي، و فيمتو.
تختلف الوجبات في كل يوم، الوجبات الرئيسية، و لكن القلوب التي تجتمع على محبة و ذكر الله
هي ذاتها القلوب.

في يومي الدراسي الأخير، أخذت علمي الكندي و مررت به على أصدقائي ليكتبوا عليه سطوراً
من الذكرى. لا أحب الذكرى و لكني سأجرب !



لمن أراد المشاركة و التبرع لإفطار الصائم في مصلانا يتواصل مع الأخ تركي السبيعي على
الرقم التالي : 7788893487




صور مختارة ( اضغط على الصورة للتكبير )



أحد المناظر يوم اتمشى مع احمد و عزيز



الساحة الداخلية للمعهد



صورة لمدخل الفصول و الكنب اللي نجلس عليه



شوارع فانكوفر



مطعم لازم تاكلون منه .. عليه برجر موب صاحي ! يحطون به بيض =)



لحظة غروب ..



منحوتة خشبية جنب المرفأ



كلاسي



محل بيع المعجنات و بجواره السينما في صالة طلبة جامعة الـ يو بي سي



مقاعد الاستراحة في ممرات الجامعة



صالة كمبيوترات و نت للي ما معه لاب توب



منظر خارجي للجامعة .. و هذا مبنى من المباني و جزء بسيط فقط



ممرات تزدان بالخضرة



إحدى الحدائق، لقيت وحدة تقرا فيها قلت والله ما تنلام يوم تنفتح نفسها للقرايه !



رايحين لمعرض المنحوتات مع مدرستنا



الطلاب المسلمين متجمعين في مصلى قرانفل، و ربي شوفتهم ترد الروح يذكروني بهلي



وجبة الافطار. الله يجزي كل من كان وراء هالعمل خير الجزاء و يكسبه الأجر



أحد الصايمين و هو مستعجل على رزقه.



الشباب يفطرون و يسولفون " بالعربي " !



بعد ما نفطر لازم نحلي .. دلع الحمد لله



سلطة .. و يالله من فضلك



الرز .. و الملاس بيد الشيخ " لا يوقف ! "



2009/08/24

في فانكوفر .. ١٠

لأنك في Vancouver ستعلم أن المستوى الأخلاقي هنا يصل إلى حد القمة. و لا أبالغ حينما
أقول أن أكثر كلمة تتلقطها أذنك هي Sorry. أرجع ذلك إلى أن Vancouver هي مدينة متعدة
الجنسيات. مختلطة الثقافات. فتجد حرص الجميع على احترام ثقافة و نظام و طريقة تفكير أي
شخص. خوفاً من الخروج من نطاق الأدب عاكساً بذلك صورة سيئة عن بلدك. إضافة إلى كوننا
دخلاء و ضيوف على دولة أخرى [ الضيف في حكم المضيف ]. علماً بأن الأجانب في فانكوفر
أكثر بكثير من الكنديين الأصل.

أذكر أني في أسبوعي الثاني خرجت من بيت زميلى في الساعة الحادي عشرة مساء. كنت أعتقد
جاهلاً أن الحافلات و القطارات تتوقف خدمتها في الساعة التاسعة، إثر معلومة خاطئة من زميل
“ يتفلسف " !. عدت سيراً مسافات الأربعة ساعات لم أوقف خلالها سيارة أجرة. كنت أظن
أيضاً أنه لا يمكنك ركوب سيارة أجرة إلا بعد تنسيق مسبق مع الشركة نفسها كما فعلت يوم
انتقالى إلى مسكني الجديد. في طريقي إلى المنزل توقفت عند موقف انتظار الحافلات. أثناء فترة
الراحة مر أمامي شخص " سكرآآآن " و بخطوات متمايلة " خبط " بعامود الإنارة. أمسكت
ضحكتي وأنا أنظر إليه بنظرة جادة. ابتسم إلي ثم قال: [ I'm sorry that had to do that].
انصدمت ! إلى هذه الدرجة وصل الإحترام لديهم !. تقول المعلمة أنكم ستلحظون شعباً خلوقاً.
و بالفعل لحظناه و عشناه حتى انعكس هذا الخلق علينا جميعاً فبدأنا نطبقه.


لأنك في Vancouver فستعلم أن الناس هنا تعيش بدون مكيفات. و بلا أدوات تبريد أو تدفئة.
ليلهم نسمة هواء عليلة. و نهارهم شمس لطيفة. و أشجار وارفة ظليلة.

في أسبوعي الثالث هنا شهدت مدينة Vancouver أعلى درجة حرارة في الساعة الخامسة
فجراً، بدرجة 33.8 C. محطمة بذلك أعلى درجة حرارة منذ عام 1960 و التي كانت 33.3 C
أذكر أني كنت في ذلك اليوم كنت أتصبب عرقاً و أنا أقف في الحافلة. كنت أنتظر المساء أملاً
بأن أجد تلك النسمة التي تعدل مزاجي. و لكنها كانت ليلة قيض ! لم أستطع النوم، حيث أني
لا أمتلك مروحة كبقية الزملاء الذين تقدم لهم العائلات مراوح. ذهبت إلى غرفة زميلي و فتحت
الباب الخارجي و وضعت مخدتي على الباب و نمت. في اليوم التالي قال لي زميلي أنه تمنى لو
نام مكاني على عتبة الباب من شدة الحر.


لأنك في Vancouver فستعلم أن المدينة هنا في سباق مع الزمن. ترمم الشوارع وتعيد تنظيمها
تزين الطرقات. و توزع الشعارات. لأنها و بكل بساطة ستحتظن الأولومبياد.

منذ يومي الأول هنا و شوارع Vancouver في سجالاً مع الوقت. يقومون بإعادة تشكيلها
لتتوافق مع آليات سير أسرع و خطط أروع. قاموا في هذه الأثناء بوضع اللمسات الأخيرة على
Sky Train متواجد في الـ Downtown. و تم افتتاحه في الأسبوع الماضي حيث اصطف
المئات في صفوف طويلة جداً منتظرين أدوارهم في ركوبه و تجربته في اليوم الأول ! لكل شخص
اهتماماته. و ركوبه في اليوم الأول لم يكن من اهتماماتي. ركبته في اليوم الثاني " من غير
صفصفه ”
.


لأنك في Vancouver ستلحظ أن الغالبية العظمى من المقيمين فيها هم من شعوب آسيا
الشرقية " الفطس ". ستلحظ ندرة وجود الأطفال في الـ Downtown أو في كثير من
الطرقات خارجها. لن تتعجب كثيراً حينما تشاهد رجلاً يمشي من غير " فنيلة " تغطي صدره.
و لكنك ستتعجب من كثرة الرجال الذي يمتلكون أجساداً رياضية مثالية !. هنا ستعلم أن
الشعب المكسيكي هم شعب إجتماعي بسيط. سهل التعامل و واضح التصرف.


لأنك في Vancouver ستعلم أن للوطية و السحاقيات حقوق. ستخبرك الأيام " أو أخوياك "
بتواجد شارع يخصهم. ستتعلم أن معنى العلم الملون بألوان قوس الرحمة على أي محل تعني
أنه محل يناصر الشواذ ! لن تتفاجأ أبداً بوجود احتفالية في إحدى الأسابيع قضيتها عن الشواذ.
و من يناهض هذه الفكرة يعتبر متعصباً متشدداً متزمتاً. لم أقبل أبداً النقاش في هذه الفكرة و
قلتها صراحة في عدة نقاشات أنهم شواذ يمتلكون فطرة منكوسة لا مبرر لها !


لأنك في Vancouver ستعيش احتفاليات مختلفة " لها أول و ما لها تالي ". احتفالية شواذ.
حيث يسير الشواذ بأزياء مقززة في صفوف في شارع دايفي. احتفالية الشموع، حيث يتجمع
الناس في إحدى الشوارع المتفق عليها و تغلق الأنوار و يمشون حاملين شمعة في أياديهم.
احتفالية العراة. و هي باختصار، سير الناس عراة في إحدى شوارع فانكوفر. عالم مهبل !


لأنك في Vancouver ستجرب جميع أصناف المأكولات. لتذوب مع اللحمة اليونانية. و تموت
متعة مع الشوربة الصينية. و تتلذذ بلذغة الإيدامات الهندية. و تتهنى بأشهى الحلويات الكندية.
و تتحرق شوقاً لطبخ أمك !

2009/08/17

في فانكوفر .. ٩

في الأسبوع الثالث بدأت مسابقة الـ FireWorks التي تقام كل صيف. فازت كندافي العام
الماضي، و أعزو ذلك إلى نسبة تصويت الكنديين لبلدهم. في هذه السنة شاركت أربعة دول.
كندا، أفريقيا الجنوبية، بريطانيا، و الصين. دارت أحداث المسابقة في خميس و سبت أسبوعين
متتاليين. كانت كندا هي الأولى في عرضها. كان كل عرض يبدأ في الساعة التاسعة و يدوم
نصف ساعة. في المدرسة أخبرونا أنه من الأفضل الإسراع إلى مكان الحدث، English Bay،
حيث ستبدأ الجموع بالتوافد هناك في ساعات مبكرة من الحدث. انطلقت مع صديقي فور انتهاء
الدوام في الساعة الخامسة و تواجدنا على شاطئ الموقع. English Bay هو أحد شواطئ
فانكوفر الجميلة المحاذي لـ Stanley Park. تقف في وسط المياه أمامنا سفينة تحمل الألعاب
النارية فيها. انتظرنا حتى الساعة التاسعة مساء تحت سطوة الشمس الحارقة. و بدأ العرض.
كان جميلاً جداً، و لكنه لم يتسلزم ذلك الحضور المبكر ! كان بإمكاننا الحضور قبل العرض
بساعة و الحصول على مكان ملائم.

في الساعة الأولى من حضورنا كان المكان خالياً إلا من قليل من المتشمسين. و بدأت الأعداد
بالتزايد مع كل ساعة. مجموعة تلعب كرة الطائرة في الزاوية اليسرى من مكاننا. و مجموعة
أخرى تلعب بالفريزبي في الزاوية اليمنى. و أخرى تتقاذف كرة القدم الأمريكية أمامنا. كريمات
للحماية من أشعة الشمس. و مناشف " منطولة " على الأرض " يتسدحون " عليها. عصائر، بيرة،
Hot Dog، دونات، و بعض يقرأ بعض كتب. استندنا على جذع شجرة ألقى، كبقية جذوع
الأشجار الملقاة، بعناية و تنظيم لتكون متكأ.

تعجبت من روعة الألعاب النارية في عرض كندا. و لكن عرض جنوب إفريقيا كان الأروع في
نظري. كانت أسطورة لن تنسى أبداً ! كان موقفاً طويلاً نقش لفترة أطول. كموقف قديم لا زلت
أذكره و لا أعلم لماذا ! حينما كنت على شاطئ الخبر و أهدتني خالتي وردة في أحد أعياد
الأضحى. لم تكن الوردة الأولى المهادة لي، و لم تكن الهدية الأولى التي تهدى من غير ميعاد
و سبب. و لكنها حتماً تحمل طابعاً لم أألفه من قبل. أذكر حينها الساعات الطوال التي جلست
فيها محدقاً في أمواج تلعب بقدمي و صوتها الهادي يشنف أذني بنغم لم أستلذه قط مثل ذلك
اليوم. تمنيت حينها لو تُرجمتْ أحاسيسي شعراً خالداً لا يمحى من صفحة الذكرى. و لكنها أبت
إلا المكوث في جنباتي من دون أيما سبب للتميز !

في يوم عرض جنوب أفريقيا، كان الجو ممطراً، ممطراً بشدة. قررت حينها البقاء مع " لاب توبي "
في غرفتي أتسامر مع أفلامي. و لكن حب التجربة فيني أرغمني على الخروج. أحب النظافة و
الترتيب كثيراً، لذلك كنت أخشى من توسخ ملابسي و ابتلالها. عذر أقبح من ذنب لم أتقبله.
لبست " جنزي "، و كان قراراً خاطئاً، و جزمتي البيضاء، قراراً آخر خاطئ، و توجهت إلى
الشاطئ. أمام المنزل وقفت في انتظار الحافلة بـ " جاكيتي ” الأسود أضع قبعته على رأسي
لتقيني من المطر ! ابتسمت لفكرة في رأسي. خلعت القبعة و جلست أنتظر الحافلة و المطر يلعب
بشعري. شعور جميل أن تتخطى الحدود. أن تكسر الأنظمة. أن تتجاوز الخطوط التي ألفت
اتباعها. التهور الذي كنت أعيشه دهراً و نسيته بعد حين، عدت له في تلك الليلة. كعصفور يرفرف
حراً في سماء لا تنتهي شعرت. وصلت الحافلة. دخلت. مضينا ركاباً تلبسهم المياه كما يلبسونها.
في المحطة الأخيرة نزلنا متوجهين إلى الشاطئ. مسافة الساعة تفصلنا عنه. أفواجاً كالحجاج
نسير. البعض يرفع أطرف جنزه، و آخرون يلعبون بالماء فرحاً. كثير يمشون في " برستيج "
مذل. “ برستيج " يحرمهم من حرية الحياة. من المتعة التي لولاها لما استطعنا العيش.

وصلت قبل العرض بعشر دقائق. أقف بجانب عمود الإضاءة عند رأس الدرج. بدأ العرض.
أذكر حينها تلك الدقائق السحرية التي عشتها بين بروق و رعود و ألعاب نارية و موسيقى. كان
مزيجاً متناغماً لم يخطط له. قطرات المطر التي تصافح المياه بكل حرارة. برق يشق عباب السماء
بكل جراء. و رعد يزيد من ضجة الموسيقى. ألعاب نارية بألوان أجمل من الخيال. مظلات تغطى
وجه الشاطئ و كاميرات لا تتوقف عن التصوير. دقائق شاعرية. دقائق لا تنسى، و كيف تنسى ؟!!


في نفس الأسبوع، أيضا، انتقلت إلى المستوى السادس في مدرستي. Martha هي مدرستي.
قالتلي بولينا أنها مدرسة مجنونة. ترفع صوتها فجأة و تركض فجأة و كل شي عندها بنظام
الفجأة ! و رغم ذلك كله إلا أن حصتها ممتعة و جميلة.
في لوحة الطلبات كتبت طلب تغيير المدرسة حتى قبل اللقاء بها. بعد انتهاء الحصة الأولى ذهبت
و شطبت الطلب. لا أعلم لماذا أقع أحياناً في اعتماد قرارات تعكس أذواق أناس آخرون !!
أحببت حصصها و شخصها المفاجئ. كبيرة في السن كانت. صغيرة في الروح و المرح. عينان
ناعستان لا تترجم واقع تصرفاتها إطلاقاً. قضيت في فصلها ثلاثة أسابيع انتقلت بعدها إلى
المستوى الأخير. كانت من أجمل أسابيعي. تقول لي أن أجيد اللغة و لكن الممارسة تنقصني. أعلم
ذلك جيداً و لكن ما ينقصني حقاً هو الثقة و الجرأة التي لم تخني قبل ذلك قط !

درست معها أسبوعاً عن الفن و آخر عن الحيوانات و أخيراً قواعد اللغة الإنجليزية التي أحبها
و أجيدها. في أسبوع الفن عرضت لنا فيلماً وثائقياً عن رسامة أثارة جدلاً قبل أربعة سنوات في
إمريكا تسمى Marla. تبلغ من العمر أربع سنوات. و ترسم لوحات تشكيلية رائعة. يضحك أحد
المعلقين في الفيلم الوثائقي قائلاً: [ و هذا أكبر دليل على أن الفن التشكيلي مجرد فشل و لعب
بالفرشاة ]
.

أعجبت بالفكرة. و لأني أحب الرسم و أميل إلى الرسم التشكيلي الذي من خلاله أستطيع
استخراج مكنونات نفسي الدفينة، مشاهداً لا رساماً طلبت من مارثا أن تقرضني " السيدي "
لليلة لأعيد مشاهدته و الإطلاع على المقاطع التي لم تعرضها لنا. ذهبت في اليوم التالي إلى
معرض فانكوفر للفن. كان يعرض حينها الفن الهولندي الذي لم يعجبني فيه إلا رسوم
" البورتريه " و دقتها. و في الدور الثالث كان دوراً خاصاً بالرسام الكندي Jack Shadbolt.
و هو رسام تشكيلي تتلمذ على يدي الرسامة الكندية التشكيلية Emily Carr. و كان أحد
الأمثلة التي تفوق الطالب على معلمه. يمنع التصوير في المعرض و لكن إعجابي بالرسومات كان
أكبر من اتباع التعليمات. ثم ذهبت إلى الدور الرابع لأتفاجأ بصور " مجنووون " يدعى
Andreas Gursky. مصور خرج عن حدود المعقول بصورة التي عنت بالتنظيم الفوضوي من
وجهة نظري التعبيرية. و يمكنكم الإطلاع على صورة التي لم أتمكن من تصويرها عن طريق
البحث بواسطة اسمه في العم Google.


الأسبوعان الرابع و الخامس لم يكونا كسابقيهم من الأسابيع. رغم وجود بعض الفعاليات إلا
أنها لم تكن بكثرة الأسابيع الأول. ذهبت في الأسبوع الرابع لقراءة كتاب " حياة في الإدارة "
لغازي القصيبي، الكتاب الذي أهداه أبو يارا لي، في الحديقة المطلة على الميناء بجانب البلورة
العلمية. و في الأسبوع ذاته، خرجت مع أصدقائي السعوديين للعب كرة القدم يوم الجمعة و التي
أصبحت عادة عصر كل جمعة. نبدأ الساعة الخامسة و ننتهي قرب التاسعة ! يتجمع معظم
الطلبة السعوديون هناك و غير السعوديين من العرب و العجم. ثم نذهب بعدها لتناول العشاء معاً
في مطعم مختلف كل أسبوع. تناول وجبة العشاء في الأسبوع الرابع في مطعم Vera's المشهور
بـ " هامبرجراته ". كانت وجبة متخمة ولكن لذيذة. ذهبنا بعدها للعرض البريطاني.

في الأسبوع الخامس ذهبت مع أصدقائي السعوديين الأربعة إلى الـ Play Land، مدينة الملاهي
المشهورة في فانكوفر. لعبنا فيها جميع الألعاب المرعبة. أحد أصدقائي، و الذي يبلغ من العمر
34 سنة، ركب معنا قطار الموت دون شعور منه في غمرة أسئلته ل يعن قواعد اللغة الإنجليزية.
قاطعته و نحن في الصعود إلى القمة قبل النزول فجأة قائلاً: [ يبو .. الحين بنطيح ! ] حينها
بدأ بالصراخ و التلعين متشبثاً بي. بينه و بين الدموع " عطسة " ! ضحكنا حد الدموع لحظة
رؤيتنا لوجهه في الصور التي ألتقطت لنا.

إلى هنا أتوقف، حتى لا تملوا !




صور مختارة (اضغط على الصورة للتكبير)




الأفواج متجهين للألعاب النارية.


قبل ساعة من بداية العرض في الـ English Bay


أحد المنتمين لدولة الميروانا، نوع من أنواع المخدرات !


قبيل بداية العرض لحظات الغروب


صورة لعرض كندا


الصورة تتكلم


بعض رسومات Shatbold


تابع


تابع


البلورة العلمية المطلة على الميناء.


صورة للإستاد المواجه للبلورة.


ملعب كل جمعة



مطعم Vera's


تابع، وجبتي.


الـ Play Land و تظهر لعبة قطار الموت يميناً


تابع، لحظة صعود القطار


اللعبة اللي ختمنا بها يومنا في الملاهي.


2009/08/16

في فانكوفر .. ٨

الأسبوع الثالث، بعد سفر دينيس، كان أسبوعاً كئيباً بعض الشي. فقد تعودت الخوض في نقاشات
طويلة مع دينيس حول المذاهب و الثقافات و الفكر و أمور مختلفة. و لأني أحب الأدب العربي كثيراً.
فكرت في خوض تجربة شعرية جديدة في الأدب الغربي. صادف أن دينيس لها تجارب في هذا المجال.
نصحتني بالقراءة لعدد من الكتاب و أرتني بعض قصائدها. أعلم جيداً أن ذائقيتي صعبة الإرضاء لذلك
لم تصل قصائدها إلى المستوى المأمول. أخبرتها بأنها جميلة و لكنها تحتاج إلى كثير من الإمعان. أؤمن
أن روعة الأدب، شعراً كان أم نثراً، لا بد أن ينعكس من جراء إلهام لا خيال ! و قد يكون هذا الإلهام
قصة حقيقية عاشها الأديب أو سمع بها، أو حتى مشاعر مضطربة تشكلت إثر عوامل مختلفة مكنته من
إنتاج ما ينتج من أدب.

قبل أن تودعنا دينيس قمنا بأخذ صورة جماعية. ثم دارت بيننا ورقة قام الجميع بكتابة إيميلاتهم فيها.
كنت متحوجاً جداً من وضع بريدي الإلكتروني. ذلك أني لا أقوم بإضافة البنات أبداً لشعوري بأنه باب
يستطيع الشيطان الدخول على منه. و بصراحة، فأنا لن أرضى أن تضيف زوجتي أحداً كصديق في
إيميلها. و ما لا أرضاه لها لن أرضاه لنفسي كأقل تقدير. اعتذرت منها و بينت لها الأسباب التي تفهمتها.

بولينا و توني كانا الأقربين لي. حيث كنا نحن الأربعة، مع دينيس، نخرج سوية. كان الأسبوع الثالث هو
الأسبوع الأخير. أعتذر لكم أيها الأطباء، و لكن التدريس مهنة أصعب بكثير من مهنكم ! يتجوب على
المدرس أن يمتلك قلباً قوياً شجاعاً أشجع من قلوبكم قبل إجراء عمليات التدريس. في نهاية كل سنة، و
في حالتي هذه كل أسبوع، يقوم المدرسون بتوديع طلاب قضوا معهم أياماً لا تنسى و مواقف لن تمحى
من ذاكرة الأيام. أخذوا معهم جزء من عمرهم، و كثيراً جداً من حبهم. الوداع صعب، ينتابني ألم ليس
بهين مع كل كف لوّاحة بالوداع. مع كل حقيبة تملؤ بالذكريات قبل الملابس للرحيل. مع كل صوت يؤذن
بالرحيل يعتصر قلبي ألماً و وجعاً. أعلم أن مدة الثلاثة أسابيع في رصيد العمر لا تذكر. و لكن رابطة
الصداقة التي ربطتني بالثلاثة كانت رابطة مختلفة. في دولة لا أعرف فيها سواهم تمسكت بهم أشد
التمسك. و إذا بهم صوب مرفئ الرحيل يسيرون.

في بداية كل شهر توضع قائمة الأنشطة الخارجية في المعهد. تعجبني كثيراً و أقوم دوماً بقراءتها و
تحديد الأيام التي أرغب الاشتراك في أنشطتها. كان يوم الثلاثاء هو يوم الـ PaintBall. و من لا يعرف
هذه اللعبة فهي تقوم على حيازتك على سلاح مذخر بطلقات من الألوان. تلبس لباساً يواري كل جسمك
و يحمي ملابسك من أن تلطخ بالألوان. الطلقات جداً مؤلمة بالرغم من اللباس الذي يوفر لنا ! بدأت اللعبة
و انقسمنا إلى مجموعتين. مجموعة تدافع عن الكنز و مجموعة تهاجم. في غابة صغيرة كانت إحداثيات
اللعبة. أي شخص يصاب بطلقة يخرج خارج اللعبة. كنت أعتقد أني من المهاجمين على الكنز فبدأت
أهاجم لإحساسي بأن الجميع متخوف من الطلقات بما أنها اللعبة الأولى. أشار على المدرب بالعودة إلى
موقعي الدفاعي لأنهم يمنع تجاوز الخط المخصص للمدافعين ! كنت مختبئاً خلف حاجز يمنع المهاجمين
من إصابتي. و فور إشارة المدرب وقفت لأعود لمركزي. حينها أصابني أحدهم في رقبتي. نلبس أقنعة
تحمي أعيننا و آذاننا، و لباساً كلباس العاملين في مزارع النحل يغطي أجسادنا. الجزء الواحد الطاهر
هو مكان الرقبة، و فيه أصبت ! كانت في عمودي الفقري مباشرة. لم أشعر بألم وقتها و لكني رفعت
يدي لأستأذن بالخروج. بعد خروجي بخمس دقائق بدأ الألم يشتد. و حينما خرج صديقي ألقى نظرة على
رقبتي ثم شهق ! علمت أن " الوضع مش كويس ". في التحدي التالي اختبأت خلف أقرب " كفر ".
و قبل انتهاء اللعبة ركضت إلى المنتصف أطلق يميناً و يساراً [ حرام تروح الطلقات من غير ما أطلقها ! ]

كانت تجربة جديدة و جميلة. أصيب صديقي في ظهره باثنا عشرة طلقة بقى أثرها مدة يومان. أما إصابتي
فما زال أثرها واضح حتى بعد أربعة أسابيع.

تعرفت على مجموعة من الطلاب السعوديين الذين ازدادت علاقتي معهم مع مرور الأيام. و في يوم
الجمعة لم أذهب للمدرسة حيث كان اليوم الأخير لتوني و بولينا في كندا. قمنا ذلك اليوم بزيارة الحديقة
القريبة من منزلنا. ثم عادوا إلى منزلي لمشاهدة أحد الأفلام. و أخيراً، ذهبنا إلى " كوفي شوب " قريب.
ثم توادعنا. كان يوماً هادئاً جميلاً. و كان عهدي الأخير بهم.

في فانكوفر. يجيء أناس و يذهب آخرون. و يبقى البعض منا يستقبل هذا و يودع ذاك. نتعلم من ثقافتنا
المختلفة أكثر مما نتعلم من اللغة الإنجليزية، الهدف الرئيسي الذي جا من أجله غالبيتنا.

في تلك الثلاثة الأسابيع الأولى أدركت في قاعدة قد تكون شبه عامة أن البرازيلين هم أطيب الناس من
ناحية الذكور. و أن المكسيكيات هن أسهلهن معاملة و أيسرهن تعامل. يعتقد الكثير من أبناء الدول
الأخرى أن الشعب السعودي يرقد على حقول النفط. و يعتقد آخرون أن كلمة SAUDI لا بد من أن لها
مرادف يعني الثراء الفاحش ! نعم، كل واحد منا يمتلك سيارته الخاصة. و كلنا نسكن في بيوت نمتلكها.
و لكنه شيء طبيعي جداً. فلا يذهب للدراسة في الخارج إلا من يمتلك القدرة المالية التي تعينه على تكاليف
مثلها سفرات. إلا الطلبة المبتعثين وزارياً فهم في شأن مختلف.

كنت أخشى من أفكار تلبسها فكري أمناً طويلاً وجدت أن ليس لها أصلاً من الصحة في الواقع. أخوض
الحديث فيها معكم في لقائي القادم.



صور مختارة (اضغط على الصورة لتكبيرها)


في طريقي للحديقة مع أصدقائي


الحديقة


منظر من الحديقة على الخارج


توني

2009/08/11

في فانكوفر .. ٧

منذ الأسبوع الأول حتى الأسبوع الثالث و أنا في حالة " فلوزة ". أسقط من الإرهاق تارة و أستيقظ
من " الزكمة " تارة. تذكرت، كثيراً، حينها كيف كنت أتعامل مع المرض في بيتنا. لم أكن أحمل
هم شيء أبداً. شاي بالليمون يدخل و شوربة تخرج. أمي تتطمن على صحتي و كل شيء متيسر.
ذهبت إلى London Drugs لأشتري منهم Panadol و لكن البائع أخبرني بأنه لا يتوفر لديهم،
و لكن في كندا يوجد بديلاًٍ عنه دواء نسيت اسمه. أخذته و كان مثل " قلّته " !


في بداية الأسبوع الثاني دلفت إلى الفصل مبتسماً [ Hey, Good morning ! ] ابتسمت
تشاو تشي، الطالبة التايوانية، و ردت التحية. التفت إلى الزاوية اليسرى من الفصل لأرى طالباً
جديداً، كل يوم إثنين نستقبل طلاب جدد و كل جمعة نودع طلاباً أخر، تبدو ملامحه عربية و لكني
لست متأكداً. على كل حال، سأحاول تجنبه قدر الإمكان حتى لا أضطر للحديث بالعربية معه.
بدأ الفصل و بدا واثقاً من نفسه ثقة تضفي على شخصيته جمالاً ! أحبه الفصل و ارتحت له
كثيراً.
مع الأيام أصبح أقرب صديق لي في كندا. كانت صفات كثيرة نشترك فيها، منها حبنا لتجربة
كل جديد !

توني، دينيس، و بولينا كانو أقرب ثلاثة أصدقاء لي. يوم الثلاثاء خرجت مع صديقي السعودي
لتناول وجبة الغداء في المطعم اليوناني. يقول صديقي بأنهم يقدمون لحمة ضأن " تاكل أصابعك
وراها "
. أجبته بكل جدية [ أجل منيب ماكل ].
بعد وجبة الغداء، التي كانت أفضل من مدحه بمراحل، عدنا إلى المعهد. كلانا انتهى يومه الدراسي
و لكنا عدنا ليلتقي ببعض أصدقائه. لمحت أصدقائي المكسيكيين من بعيد، كانت علاقتي فيهم
لحظتها سطحية إلى أبعد الحدود. اقتربت منهم حتى وقفت خلفهم. دفعت توني إلى الأمام و
صرخت: [ !! Give me your money ]. التفتوا إلى مفزوعين. زالت الرهبة عن وجيههم
لحظة تأكدهم من أن الشخص المخيف ليس إلا الشاب اللطيف [ أنا ]. سألتهم عن وجهتهم ؟
قالوا أنهم للتو أكملوا أكلهم Botien من المقهى الفلاني. البوتين هي أكلة كندية يشتهر ذلك
المقهى بصنعها. كنت أعتقد أنها حلى لذلك ذهبت لأحلي و لكني تفاجأت أنها وجبة غداء دسمة
ذهبت مباشرة إلى بطن توني الذي لم يشبع من " بوتينه ” !

[ We're going to the Gas Town ]. سألتهم إن كان بإمكاني مرافقتهم فوافقوا. ذهبنا
لنشاهد الساعة البخاربة و هي ساعة قديمة جداً تعود إلى السنة الـ " مدري كم ” ! ثم ذهبنا
لنشتري قطع تذكارية. لم أكن أنوي شراء أي قطعة لولا ذهابي معهم.

كانت تلك " الخرجة ” هي الباب الذي من خلالهم بدأت علاقتي بهم تزداد. عدنا بعدها إلى المعهد
لأني كنت مشتركاً في رحلة معه جولة بالدراجات في Stanley Park و التي كانت، مصادفة،
دينيس مشتركة فيه أيضاً. خرجنا في تلك الرحلة و التي كانت ممتعة حقاً. تعرفت فيها على شاب
لطيف من البرازيل يبلغ من العمر ١٥ سنة فقط. يقول أنه يتمنى لو كان يبلغ ١٩ سنة ليتمكن من
دخول البار ـ هع ـ. دينيس ترجع من أصل عائلة مكسيكية كاثولوكية. تكاد تتنبأ بمدى تمسكها
بدينها من مجرد النظر إلى لبسها المحتشم. تتفق معي بشكل كبير في معتقداتي و مبادئي. دار
بيني و بينها حوار حول الديانة الكاثولوكية و قربها من دين الإسلام. و أن الإسلام ما هو إلا امتداد
للنصرانية التي تتفرع الكاثولوكية منها. من الصعب جداً أن تقنع شخصاً بصحة دينك من مجرد
حوار، و لكني أكاد أجزم أن حوارنا تلك الليلة لم يكن " بلّوشي ". سألتني يوماً عن مدى تمسكي
بديني. أجبتها بأني مقصر و لكني قدر الإمكان متمسك. أخبرتها بأني لا أؤمن بالعلاقات الغرامية
دون قبل الزواج. أخبرتها أن ديننا ينهانا عن شرب الخمر و عن الكذب و عن و عن... و أني
و لله الحمد متمسك بكل ما ذكرت. بدأت تخبرني عن دينها و عن مدى تمسكها به و أنها تواضب
على حضور الكنيسة كل أحد و أنها تحب الله و عيسى. و أنها تؤمن بأن مريم عذراء، أجلها
الله عن كل ما ذكر من سوء. دار بيني و بينها حوار عن كيف استطاعوا أن يؤمنوا بأن عيسى
هو ابن الله ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ ! و إذا ما هو كذلك، فكيف يدع الله تعالى عبدته
يقتلون ابنه ! هذا إن كان قتل أصلاً.

انقضى ذلك اليوم بحلوه و حلوه. عدت إلى المنزل طريح الفراش من بقايا " الزكمة ". في نهاية
الأسبوع اتفق طالب فرنسي في فصلي مع مجموعة من الطلبة، كنت ضمنهم، أن نخرج سوية.
وافق الجميع حيث ذهبنا إلى Stanley park لندخل إلى المعرض المائي الذي قمت بزيارته قبل
ذلك. بولينا، توني، رافييل، و طالبة برازيلية أخرى أيضاً زاروه مسبقاً. اتفقنا على أن نتجول في
الحديقة ريثما ينتهوا من " خرابيطهم ". مشينا في مسارات مترفعة لا تنتهي. في منتصف الطريق
توقفنا في مدرجات ملعب. جلسوا جميعاً و ذهبت أنا لأقف في منتصف الملعب ملوحاً بيدي للجماهير.
ثم أخذت أهرول و أنا أرسل " بوساتي " للجمهور. نزلوا إلى الملعب ضاحكين و قاموا بحركات
غبية. “ ما أقول إلا العقل نعمة ! “.

في اليوم الأخير في الفصل، اليوم الأخير لدينيس، أخبرتنا المدرسة بأن درسنا اليوم استثنائي.
سنقوم نحن باختيار الموضوع الذي سنتكلم عنه. صرخ طالب في الجهة المقابلة لي من الفصل
[ let's talk about sports ]. تذمر البنات من اختياره و طالبوا بالحديث عن الحب ! كان
اختياري للصداقة. من بين مواضيع كثيرة فاز بالترشيح موضوع الحديث عن المناطق السياحية
في كندا.
عقبها، تم ترقيم طلبة الفصل و بطريقة عشوائية وقع اختيار دينيس لتكون معي. كانت طريقة
الدرس أن نخرج و نتجول في شوارع المدينة سائلين المارة عن الأماكن السياحية في فانكوفر.
و الهدف هو أن نتجرأ بالتحدث باللغة الإنجليزية. كانت الفكرة جميلة و لكن التطبيق يشوبه كثير
من الحساسية. انتهى الدرس على ما يرام.
بعد سفر دينيس سألني أكثر من طالب عما إذا كانت دينيس " القيرل فريند بتاعي ؟ ". أيقنت
حينها أن الوضع لا يختلف كثيراً عما هو عليه في السعودية !


صور مختارة



المقاضي اللي شريتها من لندن درقز و تظهر علبة الدواء


طبقي من المطعم اليوناني


البوتين ما أكلته و للحين ما جرلته و لا مشتهيه مكون من البطاطس و الجبن و مدري وش هالكريمه


الساعة البخارية


الدراجات في ستانلي بارك التابعة لطلبة المعهد


منظر من حديقة ستانلي بارك يطل عالبحر. يظهر في الصورة الطالب البرازيلي اللي عمره ١٥ سنة


في ستانلي بارك


منظر من حديقة ستانلي بارك

2009/08/09

في فانكوفر .. ٦

في ليلة الوداع. ليلة الانتقال من مسكني الأول. جلست أنا و أحمد على الدكة الخارجية للمنزل.
سماء سوداء صافية تلمع فيها بعض نجوم. و صوت حفيف الشجر مع نسمة هواء شبه باردة.
لا صرصرة و لا " وطوطه ". هدوء معه قد أسمع صوت نفسي. أقرب كوب الشاهي مني لأرتشف
منه رشفات خجولة تداعب فيه شفتي أعناق الحبق. أحمد بابتسامته المعتادة ينظر إلي و كوب
الشاهي " بتاعه " أبعد قليلاً من " سواليف " لا بد أن تطرح. ينفث الدخان الذي اكتنزه لثوان
في الهواء. أميل بجسدي قليلاً بابتسامة تعجب فيضحك. [ والله ما راح يجي الدخان بوجهك ! ]


أذكر حينما وصلت إلى مسكني الأول أديت صلاتي الظهر و العصر عكس القبلة. ساعدني أحمد
في استقبالها. عدت بعد يومين و بغباء مفرط في النكوس عن القبلة. لا أدرى أي " بلاهة "
فكرية كنت أعيش ! و لكن الله يفعل ما يريد.
قبل كل صلاة كنت، و مع العلم من وجود تقويم في جهازي، أسأل أحمد و حسين: [ الحين دخل
وقت الصلاة ؟ يعني أصلي ؟ ]
فيجيبوني بالموافقة. كانت تلك رسائل غير مباشرة تدعوهم
لنؤدي الصلاة في جماعة. لم أكن لأصارحهم لشك انتابني بأنهم ينتمون لمذهب مختلف.

[ وش جالس تفكر فيه ؟ ] قاطع فكري الشارد أحمد. [ أهلي و أخوياي ] باستعجال يثير
الشك أجبته. خضت بعده نقاشاً ودياً معه حول أضرار التدخين و أن كل " سقارة " تنقص
من عمره خمسة دقائق، فقط لتضييع السالفة.

بدأ يتحدث عن أيامه قبل البعثة. عن حياته المنقسمة ما بين القرية و المدينة. عن ماضيه مع الماشية
و كيف كان يقضي نهاره في المدرسة لا يسمن و لا يغني من جوع. حتى إذا ما قفل عائداً
إلى المزرعة وجد نفسه فيها و استكان و استراح. بدأ يصف لي رائحة الشعير و صوت الخراف
و غروب الشمس خلف الجبال. صفاوة الماء التي لا تعدلها صفواة. لبن " الخلفات " حين يملأ
به وعاءه مع حبات التمر الذي لا يحسن التفريق بين أنواعه! قصص مع الجن عاشها و قصص
سمع بها. يحلف بكل قوة أني لو كنت معه لأحببت الوضع. اكتفيت بابتسامة.

دفة الحديث لم تكن لتتوجه إلى أبداً، و ما رغبت بها. ابتسامة، همهمة، حركة رأس، و تعجب كانت
كفيلة لشحذ مخزون كلامه ليستزيد و أستزيد.
يضحك كثيراً، و بفخر، حينما يتكلم عن قبيلته و عن شيوخها. يحاول تقليد أصوات المنادي و
ينشدني بعض أشعار التسامح التي تنشد عند طلب العفو. يتذكر حين كاد له نيف من قبيلة
مجاورة و استفردوا به في مكان نائ. فلم يسعفه بعد حفظ الله و رعايته إلا معرفته الوثيقة بأحدهم
فوقف عنه مدافعاً و حصيناً.

بعض ممن يعرفني يثني على بحسن إنصاتي و تجاوبي مع المتكلم. و أكثر منهم يتضجر من كثرة
مقاطعتي ! و لكني أعلم يقيناً أن إرضاء الناس غاية لا تدرك فلا أجادل. ولكن، في تلك الليلة،
لم يقاطع، حتى الهواء، حديثه. كانت رحلة مشوقة و تقليب في صفحات ماضي شخص غريب.
و من دون أن أسألك، و في سياق حديثه عن " المضاربات "، مال إلى الحديث عن مذهبه بتشوش
متعب. لم أستطع خلال كلامه أن أستشف ماهيته. بذكاء مفرط استطاع أن يدلو بدلوه دون
أن أتمكن من استسقاء المعلومة التي أريد. بحماسة واضحة سألته [ يعني شيعي ؟ ]. بتحفظ
شديد بدأ في سرد إجابة مطولة. أتعجب كثيراً من مقدرته على الحديث طويلاً لمدة دقائق عائماً
في منطقة رمادية بين السنة و الشيعة. سكت، فهاجمت [ يعني سني ؟ ] عاد فأكمل بإجابة أطول.
عد أخذ و رد اتضح لي أنه شيعي. لم يكن عجبي أكثر منه حينما اعترف بأنه لا يختلف عن مذهب
أهل السنة في شيء ! [ طيب ليش ما تقول عن نفسك سني ؟ ] سألته بابتسامة تعجب و قد تحركت
بجسدي قليلاً إليه. ابتسم ليقول [ يعني تفرق بالتسمية ؟ ]. تحدثنا عن معنى التسمية و لماذا
يفضل أن ينسب نفسه لمذهب أهل السنة و الجماعة طالما أنه يؤمن بأحقية محمد بالرسالة و أن
الله واحد أحد، فرد صمد، لم يلد و لم يولد. سألته حينها [ طيب ليه ما صلينا جماعة ؟ ].
حقيقة، لا أذكر الإجابة.


توجهت في اليوم التالي إلى مسكني الجديد. قبل انطلاقي، قامت " المدام " بتحضير وجبة الإفطار
لنا “ hot dogs ”. كنت أتضور جوعاً، و لكن أمي تقول [ لا تاكل خنزيز ! ]. لا أدري " وش جاب طاري"
الخنزير و لكن من الباب الحيطة لم آكل. اعتذرت منها مبدياً عدم رغبتي خصوصاً بأني لا آكل
بعد النوم مباشرة. فور ذهابها أخذت تفاحة و خرجت. كان الـ TAXI في انتظاري خارجاً.
ودعت العائلة و ذهبت.

كان منزلي الجديد يبعد 45$ عن القديم. أستغرب من هذا المعهد الذي لا يتكلف بمصاريف أخطائه !
وصلت، فتحت باب الحديقة و طرقت الباب. أطل من النافذة العلوية رجل. أخبرته بأني طالب جديد.
أمرني بالتنحي عن الباب و العودة إلى الخلف ! ثم سألني عما إذا كنت أحمل معي ورقة تعريف
أو دليلاً على كلامي. كان تعامله مزعجاً جداً و لكني آثرت التغاضي. بعد تأكده طلب مني الخروج
من الحديقة و الإنتظار خارج المنزل. بشنطتي المحملة بـ " كل شيء " أجرها خلفي خارج
المنزل لأقف منتظراً شيئاً أجهله. توقفت بجانبي سيارة و إذا به نفس الرجل. طلب مني وضع
الشنطة داخل السيارة و الركوب معه. أخبرني بأنهم يمتلكون منزلين و أن سأسكن مع أخته
في الثاني. [ أي بيت منتب فيه كويس !] قلت في نفسي.

وصلنا و لم يكن في استقبالنا أحد. أيقنت حينها أن استقبال الضيوف عند آل فانكوفر ليس من
سلوم الرجاجيل و إلا لما تكرر معي الموقف. فتح الباب ليرني المنزل. فتح باباً آخر و هو يقول:
[ This is your room ] ليتفاجأ بأكوام الملابس ملقاة على سرير لم يرتّب بعد.
[ I'm so sorry. It is supposed to be cleaned ] ثم بدأ بالتحدث مع أخته بلغتهم.
ابتسم ابتسامة المخرج و طلب مني إبقاء حقيبتي في المنزل و الذهاب معه لنستقل الحافلة ليريني
كيفية الوصول إلى المدرسة. كان " مشواراً " مملاً جداً. عدنا بعده إلى غرفة تسمى نظيفة. الحمد
لله على كل حال.


بالرغم من التأكيد على المعهد بخصوص السكن مع طالب سعودي، كان جاري في الغرفة سعودي.
و أعادت الأيام نفسها ليمد لي يده بالتسليم فأرد بـ " Hello ”.
بعد أن عادت العائلة أوقظني من نومي لأتناول معهم وجبة العشاء التي تكون غالباً في الساعة
السادسة عصراً ! هي عائلة فلبينية، الرز الأبيض هو الطبق الرئيسي. غالبية أكلهم بدون ملح.
كنا نتحدث عن سبب مجيئي إلى كندا و الخلل الذي واجهني في السكن و أمور مختلفة. أكثر
كلمة ترددت في تلك الأثناء [ Eat Eat Eat Eat ]. تذكرت جدي، لا يقتنع أبداً بأي مقدار تأكل.
قناعته كلها تكمن في المدة التي تجلس فيها على " السفرة ". سألتني حينها Lawrina:

Are you afraid from catsأجبت بالنفي في حين أني لا أحبذ أن تلامسني أبداً.
أخبرتني أني سأجد وقتاً ممتعاً مع قطتها " كيتي ” التي ترقد على الكنبة المجاورة. التفت لأجد
حمار و ليس قطة ! من خلال حديثهم اكتشفت أنهم يمتلكون أربعة أنواع من الحيوانات، التي
أعرفها. قطة، أرنب، هامستر، و كلبان. عند نزولي إلى غرفتي قابلت الأرنب و يا ليتني لم أقابله !



صور مختارة



الجلسة اللي جلست مع أحمد بتالي الليل فيها.


غرفتي الجديدة نص متر في نص. =)


الحمار كيتي الله لا يرد كيتي.


أرنبهم، مدري والله وش يأكلونه غير الجزر. عجزت أصير زيه !